قـهر الناس
ديدن المقاومين و الثوار الأحرار الأقحاح، عبر التاريخ في كل مكان وزمان ،التواري بعد النجاح، سواء عن طيب خاطر أو كرها،"1 الخطابي، الزرقطوني،غيفارا،لومومبا،مانديلا..." لأن الهدف الأسمى يكون قد تحقق، ليقود القاطرة من ركب على متنها بالفضول والمجانية، معتمدا ـ في خفاء ـ على قوى مساندة ماديا ومعنويا لحاجة في نفس يعقوب؛ ويطمس التاريخ أسماء شخصيات تحقق على يدها كل شيء.
محمد الحبيب العسالي
قـهر الناس
كان بنعلال الشاب الذي لم يبلغ بعد ربيعه الثامن عشر... وسيما قوية البنية ،مفرع الكتف،طويل القامة ،دمث الخلق،يقطن مع أمه
" *الطاهرة " في قرية تعيش تحت طائلة الحاجة والعوز، والأوبئة والأمراض الفتاكة من قبيل الجذام والجدري و2"التيفوس"... ناهيك عن اضطهاد المعمر الفرنسي الغاشم وبطش سلطات أذنابه الخونة، الذين كانوا يهددونه ويتوعدونه مرارا، لرفضه الالتحاق بالجندية الفرنسية ـ رغم صغر سنه ـ إلا أنه كان عنيدا مثل أبيه ـ المقاوم الشهيد الذي كلفه عناده من أجل وطنه حياته ـ وكان لهذا السبب يُكنُّ للاستعمار وأعوانه،غلا دفينا في طويته، كلما رج في صدره راودته فكرة الانتقام.
عاشت" الطاهرة" المرأة الرزينة الفاطنة، أحلى أيام حياتها مع زوجها المرحوم الشهيد ،إبان فترة المقاومة ،والتي كانت لها فيها اليد الطولى ،في مد يد العون بشتى الطرق وفي أحلك الأوقات ،بمعية ثلـّة من نسوة القرية ؛فكانت كلما تذكرت مغامرات تلك الحقبة تردد:3"دوزناها على الاستعمار الخنزير بالمقاومة ، إيلا بغات تجي الموت جْنافو عليها" ؛وكانت من حين لآخر تلقن ابنها دروسا ، في كيفية التعامل مع تلك الفترة الحساسة التي يعيشها من عمره، والحالة التي تشهدها البلاد ،وتنهيه عن التعنت والتهور وتأمره بالحكمة والحنكة مع الأعداء على وجه الخصوص،لأنها أيم ولا تريد أن تصبح ثكلى،.فتـُلْدَغ من نفس الجحر مرتين.
في أحد أيام فصل الشتاء الكئيبة ،سمعت "الطاهرة" طرقات شديدة على الباب ،فهرولت نحوه مذعورة فتحته على عجل ،فإذا به شيخ القبيلة يقتحم البيت مادّا يديه صوب نهدي الغالية،التي نهرته وتراجعت إلى الخلف فأزاحها بعنف من أمامه، ودلف من بعده4 "السبايسية" ليتوجهوا توا إلى "القبة"الغرفة التي تأوي الأسرة إبان الأجواء الماطرة،و الضيوف خلال باقي فترات السنة،بحيث سقوف باقي الغرف متصدعة ،توشك على السقوط بفعل الأمطارالمتساقطة...وتعالت نبرة الشيخ بازدراء :5"نوض آ بنعلال ورقتك ديال العسكر راها جات شحال قدك تتهرب"...بهستيريا غير معتادة وقف بنعلال واجما يزفر كثور الكوريدا عند دخوله حلبة الصراع، و تبادرت إلى ذهنه أفكار فطنت لها أمه، فأومأت له بإشارة أدرك معناها،فأطرق... وأرخى عينيه إلى الأرض ثم انصاع بعدها طاعة لأمه، وخضع للأوامر؛ وتراءت الأم أشبه بناقة سُلبت بوّها ،تودعه بنظرة حزينة ودمعتين ذرفتهما عيناها بعد قلبها،وابتسامة ماكرة غطت بها حنقها، لتطفئ غيظ بنعلال لئلا يُقدم على ما قد لا تحمد عقباه..
مرت شهور فراق طويلة بين الأم و وحيدها، فكان كل أترابه ممن رافقوه يزورون أهلهم بين الفينة والأخرى، وفي كل مرة كانت تسأل أحدهم عن ابنها، كان يقال لها :6"شدوه فْ لاندوشين" لكن لا أحد منهم كان يملك الجواب الشافي.
مرت سنوات وحطت الحرب أوزارها ،وعاد من كتبت لهم الحياة من الشبان ،كل واحد يجر ورائه عاهته ، بعدما رمت بهم الحكومة الفرنسية من باب التهميش إلى قعر النسيان، وقد دفعت لهم أجورهم البخسة كاملة باعتبارهم مرتزقة .
بدأت أخبار بنعلال تتسرب من خلال حكايات العائدين،منهم من أعتق رقابهم من الثوار، ومنهم من غض عنهم الطرف في السجون حتى تمكنوا من الفرار سالمين بأرواحهم ،حين أصبح جنديا في صفوف الثوار الفيتنام ،برتبة جنرال،بعد تمرده على الجيش الفرنسي المجرم الذي رآه بأم عينه يجهش على أرواح المدنيين العزل ...من أطفال ونساء وشيوخ، ويغتصب السبايا. وكان الضباط الفرنسيون يعاملون الجنود الأفارقة بقسوة ووحشية، ويحرضون البيض على السود و السود على البيض، مستعملين سياسة "فرق تسد"، ويحشدونهم كدروع بشرية نحو الجبهة الأمامية حين يحمى الوطيس. كل هذا حز في نفس بنعلال ،ودفعه إلى الانتقام بالانتقال إلى الجبهة المعاكسة، ومساندة الجيش الفيتنامي الذي احتاط منه في البداية،مخافة ازدواجية مهمة عسكرية مدبرة، إلى أن تبين حسن نيته واكتُشفت شهامته و بسالته المصقولتان بالاندفاع الثوري ، الشيء الذي ساعده على رد الصاع صاعين للفرنسيين، وثأر لوالده ووطنه بالتصدي للأعداء،في حرب عصابات طويلة الأمد،كان خلالها ينصب الكمائن في أماكن قلما تخسر الهدف ،ويقتنص ذوي النياشين من الفرنسيين بمهارة الرماة المتميزين،وكان بذلك يغامر مغامرات كادت تودي بحياته مرات عديدة، إلى حين اندحار اللأعداء و إجلائهم خارج القواعد، خائبين مهطعي رؤوسهم،بعدما أتوا على الأخضر واليابس ، وأهلكوا الحرث والنسل .
وبعد فترة ما سمي بالاستقلال ،عاد بنعلال إلى البلد الأم ليجد دار لقمان على حالها،فنُعث بالحمق والخيانة وحرم من أبسط حقوقه،بل الأدهى والأمر من هذا كله أنه أصيب بصدمة نفسية فقدَ على إثرها عقله، لما علم بمقتل والدته بعد اغتصابها ،ونزل إلى أطول شارع في أقرب مدينة لقريته ، وتسكع ما يقرب من عقدين من الزمن ،يفترش الأرض ويلتحف السماء،على الأرصفة ضيفا شتاءا وصيفا،تكسو جسده جلابيب المحسنين من دون ملابس داخلية ،حافي القدمين ،يسب المارة و يرميهم بالحجارة ،إلى أن تلقفته يد المنون،رحمه اللـه ،جنب أحد أكبر المستشفيات العمومية والذي رفض مسؤولوه استقباله مريضا للعلاج،فاستقبلوه جثة هامدة للتشريح؛ليدون التاريخ المدجن، و يكتب صفحاته باسم الغدر والخيانة" ظلما وقهرا. "

هامش لتفسير بعض الجمل التي جاءت اللسان الدارج المغربي:

*الطاهرة:اسم من الأسماء التي تطلق على النساء
1.الخطابي، الزرقطوني : مقاومان مغربيان لهما شهرة عالمية
2.التيفوس:مرض معدي تفشى إبان فترة الاستعمار.
3."دوزناها على الاستعمار الخنزير بالمقاومة ، إيلا بغات تجي الموت جْنافو عليها":قاومنا الاستعمار الغاشم بشراسة فلا ضير إن وافتنا المنية.
4."السبايسية":جهاز من جنود المخزن الموالي للاستعمار.
5."نوض آ بنعلال ورقتك ديال العسكر راها جات شحال قدك تتهرب":قم ،أوراقك للتجنيد الإجباري وصلت،إلى متى ستبقى متخفيا.
6."شدوه فْ لاندوشين":ألقي عليه القبض بالهند الصينية.

استمعت بقراءتها



دام نبض قلمك لنا

تحياتي

ممتن لك saydsalem مرورك المقتضب

أقصوصة في غاية الاهمية تشكر عليها اخي الكريم المبدع محمد الحبيب العسالي اشتقنا لك ولمشاركاتك القيمة
أبارك لك ولنا هذا التميز أخي لنا لقاء في القريب انشاء الله
لك جل تقديري واحترامي