[] في مرعى القراءة الفارغ.. التقيت قطيعا من الكلمات النثرية الشاعرية، تصول وتجول داخل ديوان * راعي الفراغ * المتوج باسم شاعر يهابه الفراغ بعينه، كيف لا وهو راعيه.. حقا.. شاعر الفــراغ والريـــح
* عبد الجواد العوفير * ذكرني بمقطع من قصيدتي النثرية، هي توأم هذا القلب.. تقول:
الكلمات الشاعرة..
تترك أثرا في كتاب الزمن..
ترغمك على نزع قبّعتك…
نصوص ديوان * راعي الفراغ * هي صوت الريح في أذن المتلقي، تأخذنا بعيدا عن فوضى الواقع، لتؤسس لنا حالة دهشة أمام أفواه جامدة.. وعقول مصعوقة.. تطير بخيالها المتعدد نحو عالم اسْـتـَـخْـرج من الواقع عمقه المرير، ومن الخيال غموضه الأسطوري..
بداية يستقبل الشاعر، البحر في طاولته التي تشبه كف الخيال.. يشرب ويدمدم.. يتذكر الحانة و هؤلاء.. الغرفة.. المجهول.. الضوء.. والمتصوفة عند انبعاثهم الحاني من القلب.. القلب الدافئ بالسواد.. يتذكر ابتسامة الطفولة.. وشيخه العطار.. يتذكر الحزن.. المرأة.. وجهة الروح.. كل مسطر في نبض قصيدته الافتتاحية
" أنهار تنمو في الذاكرة " .
وكأني بهذه الأخيرة صدى ناقوس، يجلب إليه نفر من موتى الحبر المخلدون.. ونفر من قطيع قصائد متتالية وفية لسابقاتها.. و في قصيدته السالفة الذكر يقول:
..الموتى يطلقون غيابهم طيور محبة..
سناجب تقفز الكلمات
من حلقي..
لتملأ الفراغ..
.. هنا يرحل بي القول.. صوب جهة الروح، لدى الشاعر.. مدركة أنني أمام روح متصوف عتيق.. في لباس صعلوك عنيد.. ولأكتشف على التوالي في ثنايا نبضه الناري.. أن للفراغ صوت.. و أن للسواد في عينيه جمال لا يبلى.. وللحزن لذة.. وللمرأة وهم.. وللطفولة عالم باسم، يحيي شاعرنا بعد مقتل.. ولا ننسى أيضا أن للبحر صديق يجالسه بداية ويغادره نهاية، أينما حلّ وارتحل..
ننتقل بعد ذلك ونحن شبه سكارى.. منتشين بمهابة الحرف، و مصغين لصدق النبض.. نحو الابن الثاني للقطيع..
" المنعزلون " :
.. المنعزلون وما أدراك ما المنعزلون.. / ..الصعاليك.. الذين يشيدون في الصبحيات الجميلة من سلال أحرفهم العالية.. خريفا بحريا.. عامرا بالحب.. لا مجال للربيع في ليلهم الباهت.. إلا من نساء هاربات من شبح العزلة.. ليعودوا في الصبحيات الحادة سيفا عاليا علو هاماتهم..
المنعزلون بسلال القش
في الصبحيات الحادة كسيف
يجمعون ريح الصباح..
ونحن نتجول تائهين.. فإذا بنا نجد ابنا ثالثا ضالا عن قطيعه.. هو:
" ماء يجري في الظل " .. نحاول سبر أغواره.. فنجده ماءا وحيدا.. يقتسم رغيفه مع كرومه ومطره الباكي.. بعيدا عن الأنخاب الهازئة به.. وبمصيرٍ يجري دون أن يمنح أصحاب الأنخاب، فرصة العودة.. لأحضان الطفولة.. تاركا ماءهم الحزين يقطر وحدة من العزلة..
أستمر منتشية شعريا، على أرض جولتي.. فادا بي اسمع صوتا خافتا يهمس في اذني.. الابن الرابع:
" دودة فتحت بابا في الفراغ " نبض منفرد، له خاصية كاشف الأقنعة.. يقول كل له دودته وقناعه.. وهو دودة قلقة وروح دون قناع.. هنا كان شاعرنا متمردا على مجتمعه.. حادا وساخرا من ظواهر يستنكرها.. ويفكك سلبياتها حالة بعد حالة.. فهو المراوغ الذكي ذكاء الدودة/ القبعة السوداء.. والمسامح المنفي كدودة الفراشة..
شعرت بالدوار لكنه دوار لذيذ.. حملني من تيه إلى تيه.. لأقابل في طريقي : " الأبدية أصغر من جسدين ":
حاولت أن أقيس نبضي فوجدته ارتفع إلى عرش السماء.. فالروح والجسد في هذه القصيدة البركانية.. تربعا بدلال عرش القلب.. واكتشفا بروعة قداسة التوحد.. وأرجعا الأبدية قزما.. لا ترتقي لمستوى الجنون والحب إلا بإذنهما.. إنه عصير من الخجل والجرأة.. فعل فعلته في احتشام.. تاركا إثمه على الرمل.. وروحه الباسمة في حزن الجسد..
أيتها الأبدية كم أنت صغيرة
لمدا عيناك تبرقان في الليل كقطة
سنمسكك ونعلوا بك
إلى ما هو أعلى منك.
……
تنفست الصعداء وأنا أخرج من باب الأبدية.. لأدخل بابا غير سابقه.. فاتحة عيني للعَدْو.. عنوانه:
" حصانك يعدو نحوي يا رينيه شار " :
.. هو وفاء للذاكرة وللموت وللسوريالية.. المتجسدة في حصان رينيه شار.. والشاعر يخطو صمته بعزاء.. ويستقبل عَدْوَ صاحبه نحوه في حب.. بجانب ممطر من ذاكرة الطفولة..
الدخول إلى الصمت حياة والخروج منه وفاة.. لكني في جولتي مازلت متمسكة بالحياة رغم حدة الصمت.. فقط هي الكلمات التي تعيدني إلى رواقها رغما عن الشيء:
" لم نعد بحاجة للكلمات " هي المرارة في اللسان فلا مجال للكلام.. هو ثقب في القلب عندما يغادره الحب.. هو إحساس الغربة والكآبة وسط وطن فارغ.. هو كثير الم وكثير شجن.. فما جدوى الكلام؟..
آهٍ ! هو إحساس، نقله لنا الشاعر.. لنبكي مرارة معه ونقول بصوته:
..ماذا سنفعل بالكلمات
وروحنا كزهرة غريبة في حقل سحيق.
..
مـَسحت دمعة متسللة من القلب.. وتابعت سيري نحو " شبقيات الأحلام السحيقة ":
.. خجلت بل اندهشت.. وأنا أدخل إلى حلم لذيذ بشبقياته الخوالي.. و بدهاليزه وعتماته الجريئة..
.. قلت في نفسي هي سكرة اللذة مقترنة بشفافية الأزهار القادمة من القدم.. تهمس في أذن شاعرنا ليتصالح مع المطر.. ويفتح الباب للعزلة لتستمتع بأنين الليل.. ويخف النوم الثقيل من قبعته السوداء.. طبعا عند ارتدائه لماء الليل الماكر..
أيقضني من غفوتي اللذيذة صوت ريح غربي.. يسمى " الريح صمت يرتدي العاصفة " :
.. هذه المقطوعة الشعرية العاصفة، لما تحمله في نبضها من هموم جيل ووطن، تتحدى غربتها من أجل العودة لذاكرة الوطن المتجددة:
لن تستطيع
يد المنفى
أن تغطي وجه الوطن
لن يستطيع شبح
محو ذاكرتي
………
.. هي دعوة للصعود نحو الأفق، كفانا صمتا ونوما في حزن الذكريات، إحساس استشعرته من نبض الشاعر الساخط على واقعه المرير.. ويتابع بضبابية نوعا ما قائلا:
تعلمت منك
أيها الريح الشيطان
كيف أفارق من أحب
كيف أفارق من في السماء
أنا مثلك
أفارق نفسي.
.. ربما هي صحوة النفس ولوم الضمير اللذان يحاصران ذات الشاعر المضطربة، ليرمي أحماله بيأس على ظهر الفراق.
بحثت عن عينيك
أيها الريح الجليدي
فوجدت عيني
بحثت
عن صوتك
فأجابني صوتي.
هي قمة التوحد الروحي بين الريح والشاعر.. فهذا الأخير لم يرى أحدا جديرا بصداقته والتشبه به غير الريح.. فصوت الريح يسكن قلب الشاعر الجامد.. جمود الريح الشتائي.. الباحث عن وردة تذيب هذا الجليد.
تجذبني سهوا.. خيوط العنكبوت اللولبية من عنق الريح وعاصفته، لأتابع خطوي نحو " العنكبـوت " :
.. العزلة تحيك صوفا وحيدا من خيوط العنكبوت.. هي السوريالية المنبعثة من الفوضى و الزوبعة المتسللة من رأس الشاعر.. وحده العنكبوت يلقي عليه التحية من زاوية الغرفة.. وهي صورة في رأي قمة في المأساوية، حيث لا نجد غير الجدران والوهم الحشري الذي يناجينا ساعة شجن وغربة..
4-
ما رأيك
حين أجلس في المقهى
أحملك معي
في صندوق صغير
أنيق
يليق بمستواك
…….
.. عبر نبض سهل ممتنع هنا.. استخرج لنا الشاعر ماسة بالية ذكرتنا بخيال الطفولة وبراءتها الحالمة..
7-
العنكبوت يتشبث بنهدين
كي يخلق
امرأة
.. لغة انتقلت من السهل الممتنع إلى لغة المطر المدفون في عمق الكلمة.. الكلمة ذات الخيال المجنح.. التي تخترع من الفراغ أنثى حقيقية..
12-
أحببتك
أيها العنكبوت
لأنك قليل اللباقة
مثلي
….
.. يعترف الشاعر، بقلة لباقته كالعنكبوت.. وبحبه لهذا الأخير أي لنفسه.. عكس لا مبالاته اتجاه امرأة المصباح.. وكأني بقبعته لا تـُـنـْـزع إلا للعنكبوت شبيهه.
توقفت فجأة وقد لفت نظري جاذبية قصيدة.. قصيرة القامة حقا.. لكنها مكتنزة الحرف والروح..
" زهرة التوليب " : سيمفونية ندية نداوة الربيع.. صفراء كوجه الخريف.. بين أمل الحب وألم النسيان.. يتأسف الشاعر لنفسه وللعائدين من حروب خاسرة.. وحدها نفسه.. من يربحها عكسهم..
أذكر أنك أشرت إلى زهرة توليب
وقلت: هذا هو الحب.
فهل أفتح الباب
كي يدخل النسيان…….
تابعت جولتي متأملة، عبق " زهرة التوليب" الغامضة، لأزور بحنو " حديقة البيت القديم " :
أذكر معبرا سريا
تحت البيت
حيث كائنات بوجوه ممسوخة
تقرأ بوقار
قصائد شعراء
لم يخلقوا بعد.
.. نلاحظ أن الشاعر دائما في رحلة متكررة، وجهة الماضي والذكريات.. بالخصوص فترة الطفولة..
إذ يبحث عبر هذه الفترة.. و عبر استنشاق عبقها إلى إيجاد نفسه التائهة، عند نقطة البداية.. وعند أول قصيدة بل أول خطوة نحو الفراغ..
القصيدة الأولى
تحدث
شرخا في الجدار
....
.. إدراك ناضج منذ البداية لقوة الحرف وسطوته ضد العاصفة.
تمتمات تـُعانق جولتي بحفاوة.. تصيح باسم نبض متـَـفـرد و مكمل لسابقه.. في استرجاع الماضي وتحليل ظواهر الواقع المتعددة..
" أصدقــاء" :
.. صدى عميق الصوت.. ينتقل لأذن المتلقي بإيقاع السوط.. يجعله يصيح ألما حينا.. وصمتا رهيبا حينا آخرا..
أصدقاء على أجنحة النسيان والرعب الدافئ.
…
أصدقاء متصوفة يطرقون الباب بعنف.
أصدقاء هم الباب المتهيئ للبكاء.
…
.. بلغة كثيفة نثرية، ترجم لنا الشاعر عدة أحاسيس إنسانية، منتقلا بنا إلى عالم الصداقة، باختلاف أشكاله وألوانه وعبر نبض ناضج وواع لما يحدث في أرض الواقع.. إنها إذن تجربة الشاعر المريرة أحيانا مع الأصدقاء، لكنه مع ذلك لا ينكر أن فيهم القريب منه، وقد يكون هو نفسه صديقا لنفسه نهاية..
أصدقاء يجلسون مع البحر في الحانة.
يظل الشعر لغة إنسانية بديعة وساحرة بامتياز.. فهو ديوان العرب المتجدد.. له أساليب تعبيرية أدبية انفعالية، تجعله جسرا لقارئه وسامعه.. نحو عالم ينحني له تقديرا لبديع منطقه ولروعة صوره وخياله.. .. " راعي الفراغ " :
.. عنوان عميق لمجموعة شعرية بديعة، للشاعر الشاب عبد الجواد العوفير.. وهي كذلك عنوان قصيدتنا التالية، التي تعبر لنا عن مدى الخيال الواسع الذي يتمتع به الشاعر، وفي نفس الوقت تترجم لنا بحسها الجريء.. عن مدى المعانات التي تعتمر داخله، كإحساس بالعزلة واليتم والوحدة والفراغ.. هذا الأخير الذي حوّله الشاعر بتمرد، إلى قطيع يقوده إلى حتفه.. بكل سلطة ونرجسية.. رغم روحه الربيعية..
أقود قطعانا من الفراغ
إلى مرعى روحي الخصيب.
أنا من سأقود الفراغ إلى حتفه.
والمرأة وسط هذا الفراغ محببة، لكنّها مفقودة.. هي إشارة إلى فقدانه لأمه رحمها الله.. أو ربما فقدانه للمرأة التي رسم لها في خياله، روحا طاهرة وبريئة.. ليصطدم بأرض الواقع القاسية التي تحرمه من كل من يحب.. فما جدوى الحب في قلب الشاعر الميت؟
المرأة المحلقة
على جناح فكرة
لا نحبها إلا لنفقدها.
قلوبنا تتسع فقط للموتى
...
بعد ذلك، ينتقل بنا الشاعر إلى حالة إنسانية تفيض حزنا وجرحا.. وتتلمّظ شوقا للشعر والموت.. ليصرخ بأعلى صوته " لا تأت أيها النسيان" :
.. لا قدرة للشاعر على إيقاف عجلة النسيان، نسيان من نحب.. لهذا يحاول تذكر أناس شعراء مبدعين.. طوتهم أوراق النسيان البالية، في عمقها التاريخي.. ليحييها.. هو الشاعر الغامض.. مثلهم، فهو الوحيد في نظره.. من يمسح الغبار عن جباههم.. ويحبهم مرة ثانية.. الحب الذي يبعث الحياة في الروح الميتة..
فكيف أوقف قطارك
يا ( أنسي*)
وأحبابك يتساقطون
من نوافذه
كأوراق خريف
ثم ألملمهم
وأحبهم مرة ثانية
…
ينقدني الغموض في السقطة الكبرى
السقطة قفزة
نحو الدهشة
ما أبهى السقوط معك يا " نفري "
أشيخ ببابك
ولا تأتي أيها النسيان
فكيف أوقف وجوهك
التي تملأ الغرفة؟
تابعت جولتي بعد سكرة الموت النادرة هذه مع النسيان، لكي أتوقف قبالة " le rêve :
ما أجمل الشيطان
له أجمل كلام
وأجنحة نساء
هربن من ذاكرتي
…
.. هي عصارة نبيذ من الكلمات الشيطانية الجميلة والرخيصة، لحظة نشوة هائجة.. تذبل عند مقدم فكرة لها طعم الروح والحلم الغائب.
" معلقات على أستار الكأس " :
حين أقف أمامها.. أستحضر المعلقات السبع المتوجة في أستار الكعبة.. وأرى بالضفة المقابلة للشاعر، أن حلاوة الكأس/الشعر المقدس.. لا تسكر الشاعر بقدر ما تغرقه شعرا.. له نكهة المرارة المحلاة بنشوة أبدية.. النشوة المتوجة في عرش الكلمات الحكيمة المثلجة.. و المتسللة من ليل الفراشة.. الفراشة/ الشاعر.. هي لحظة توحد نرجسية، ونشوة روحية.. بين الشاعر والكأس / الشعر.
12-
أحمل قبتي الخضراء
على ظهري
وأدور
على نفسي
كالمجذوب
وأتوحد
مع كأسي
وأقول: يا أنا.
ارتديت معطف الشجاعة وتقدمت في سيري مسرعة، بعدما ارتبكت دهشة، من حالة الفوضى اللذيذة. في قلب
" معلقات على أستار الكأس "
وما قبلها.. لأتأمّل بابتسامة رزينة، روح الشاعر عبد الجواد العوفير، المتوثبة غموضا والمتقلبة أرقا وشعرا.. في " ظـــل " :
.. ظله اللذيذ / الذاكرة..
1-
الظل القادم
من اللا شكل
الداخل
عظام اللذة
و التوعك
…
5-
الظل الذي يعلو
فوق ما يعلو منا
…
11-
الظل الذاكرة
المعتزل في غرفة
يتفرج على الشاعر.
…
ظل الشاعر يطير بنا في فظاءات الشعر المطري.. المنبعثة من روح عبد الجواد العوفير الإنسانية، إلى عالم بحري لا منتهي.. الظل / الشاعر.
هو " مقعد متعب على البحر " :
.. المقعد الشيخ المتآكل.. يجلس على يد الشاعر الوحيدة.. مع الشاي المغلي في الذاكرة. هو شعور التيه والحزن يتملك الشاعر ويرميه في بئر الوحدة القاتلة.. وكأني به يتوحّد مع المقعد كأنهما روح واحدة.
كرسيك الهزاز
الذي ينظر للبحر
كرسيك الهرم
الذي لم يشتك يوما
…
كرسيك الوحيد
يكتب الشعر
ويتبع الحسنوات على الشاطئ
….
" باب في الفراغ " .. يتضمن في طياته.. لغة شعرية نثرية.. عميقة حد الأفق، يرسم لنا عبرها الشاعر خريطة خيالية.. تساعدنا على متابعة خطواتنا المندهشة، نحو المجهول.. وتعلقنا في رجل حلم لا وجه له غير الفراغ.. كما أنه هنا.. يثبت لنا تأثره، بالفن التشكيلي و مبدعيه.. مع محاولته رسم لوحة في كتاباته.. يبحث عبرها.. عن حنان الأم المفقود.. ويظهر لنا فيها عالمه الفارغ إلا منه..
وهذا الرسام المتعب اليدين
يرسم نافذة
يعلقها بأوهامه
كي أطل من خلالها على نفسي
…
…
وهته العجوز
التي أكاد أتبين تجاعيدها
في فراغ الأمكنة
أناديها: يا أمي
بلغة أعمق و بنبض متفرد بديع.. يتوحد مع نمط القصص القصيرة جدا.. يتنقل بنا الشاعر في " عتمة مشعة " بخفةالفراشة.. عبر لوحة ولوحة.. لنرى صورا تتراقص ألوانها المعبرة مرارة حد اللذة.. في فضاء الشعر..
" عتمة مشعة " هي أكثر قصائد المجموعة عمقا و تماسا مع ذات الشاعر، لقد سكب في أحرفها النارية من وحي حبره الأسود شعاعا أزرقا .. عظيما بفكره وإلها بقدسيته وقوته.. هو البحر اللا مرئي يتقاطر شعرا.. لا قبل لأي أحد بفك طلاسمه.. إلا الشعراء و الغواّصة..
-صاحبنا يجلس أمام البحر يراقبنا
-قل هو البحر بعظمته
-إنه بحر يمشي على البحر، يحمل أقمارا سوداء
-يحمل رأسه في زجاجة؟ !
-هذه غرفة نومه، كان ينام على سحابة
-لا ينام الشعراء
…….
-حبة الرمل كانت تعني له الكون
-لكنه كان يهتم بالوجه الآخر للكون
-يبحث عن عالم لا يموت فيه بالضبط ولا يحيا بالضبط
-العدم؟ !
.. قمة في الخيال و العمق الفكري الباذخ بالفلسفة الكونية والروح القرآنية.. أثبتت أن الشاعر أدرك باللاوعي عنوان المادة الكونية وما وراء المعنى.. هي جنية الشعر تملكته وسحرته فيلسوفا شاعرا..
-رأيت قبعة تعانق رأسه. ورأيت السماء تجثو أمامه، كان يحدث العصافير والأقمار ويحمل بين يديه الشمس.
.. الشاعر تأثر بقصة سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته.. وأسقطها في جانب من حياته.. ليجتر الحق بعظمه. ويرتفع جنونا حدّ الحكمة.. متسلحا بروح الشعر الذي يعلو به فوق المادة.
" قطارات السموات السبع " :
يمكنني أن أرتاح قليلا في جولتي.. فالرحلة الآن سأكملها على مثن القطار المجنون.. / الشاعر.
5-
من شخير القطار المتعب
يصعد الشعر،
ونحب اللّه أكثر.
…..
20-
عذرا أيها القطار الطيب
لأنني لم آت لموعدك
كما اتفقنا،
فقد صرت قطارا بدوري
وسافرت وحدي.
.. لحظة !.. كأن القطار تحول لكائن.. والكائن شاعر طيب.. لا ينام لشدة تعبه، ووحدته، وغرابة صوفيته.. وشدة عطشه للموتى الخالدين..
نزلت من القطار الشاعر، لأكمل جولتي الغريبة في درب " فرويد في مواجهة المرآة " :
بين الوقفة الشمولية في شوارع فرويد لأكثر النقط السوداء، التي تأرق مضجع الشاعر.. وبين التأمل الكوني الذي يستمد منه رحيق شعره الأسود المتسع بياضا، نجدنا أمام مقطوعة نثرية، فياضة بالموسيقى وبتجربة الحياة التي تختزنها الذكريات المتراكمة في عقل الشاعر الثائر..
.. إنها ذكريات حطت برحالها على أرض تلبسها أوراق سوداء مشعة بالإحساس الإنساني.. وهي ليست قابلة لأن تُدرك كلياًّ أو ترمّز كلياً..
.. ذكره لفرويد ونيتشه يبين لنا مدى تأثره بمسار كلا المبدعين.. وتظهر ثقافته الفكرية المضطلعة على الحركة الثقافية والفلسفية العالمية.. وذكره للحلاج يبين لنا صوفية روحه وجرأته في الاعتراف بعيوبه.. في رحلة العودة المتكررة والقلقة إلى ذكريات الطفولة الغائبة.. إذ يأوي إلى أوراقه وعزلته كملاذ له بعيدا عن الأرق الأبيض.. لينسى ضجيج الواقع .. ومرارة الفراق .. فراق الأم والطفل/ الطفل الشاعر.. وليقترب من قسوة الإدراك.. إدراك كنه الليل والوهم.
3-في شوارع فرويد: الإنسان الخارق يسأل ( نيثشه ) عن معنى النبوة فينتحر ( نيثشه ) في أول الجواب، ولا يبقى مع الريح سوى دجال يدّعي أنه ( الحلاج ) يحمل صليب الوهم ويسكر في الليل عند ( أبي لهب ).
تبيّن لي بعد مروري من شوارع فرويد نضج الشاعر، وخصوصية شعره.. وأجدني معجبة بتدرّج قصائده من العميق إلى الأعمق ومن السهل إلى الهضبة ثم الجبل.
" ستزورك المسافات السحيقة " :
عنوان بارز في بحر جولتي الوجدانية.. يستحق مني وقفة تأملية..
أذكر سنابل تنمو.
في غياب المعنى
وشعراء حزانى رغم
ملائكة خُضر
...
..البحث المستمر للشاعر عن الأمان الغائب وعن حياة طبيعية.. بعيدا عن الخيانة و الحزن والهروب إلى الماضي، هي أمنية في قلبه يترقّب تحقيقها.
" مقهى 6 زنقة روما " :
إحساس بالدفيء يغمر شاعرنا كلما زار مقهاه الخاص.. إذ يتخفّف من الشعر والحزن.. ومن عمره الصغير الكبير.. ليرتدي قناعا لطيفا.. كلطف زبائن مقهى 6 زنقة روما.. هو الطفل الشيخ أينما حلّ وارتحل.. طفل فارقته والدته وذكرياته.. ليعود لوالدته وذكرياته.
كائنات المقهى لطيفة
كهواء ديسمبر البعيد
تكره الشعر والشعراء
كعادة اللطيفين.
صوت متألم يناديني من بعيد:
- .. أوقفي جولتك الغريبة.. فإنني بحاجة إلى كون من الراحة والماء.. وكواكب من الحنان.. كي أنعش تعبي الميت.. وحزني الفارغ الدائم.
استدرت قليلا وطلبت منه الثريت قائلة:
- صبرا فالحزن قطرة ندى على جبين الشاعر..
.. سوف أقابل الآن آخر إبن في قطيع الفراغ.. وأول حفيد في قطيع آخر مستقبلي..
" جسدك الأكثر علوا " :
الجسد يقطف الروح ويزرعها في بحر المعنى.. المعنى المتسلل من حميمية الشاعر وخياله.. لقد خلق لنا عالما جميلا منطلقا من ذاته الشاعرة الى اللاوعي..إلى العدم.. بعد أن رسم لنا طريقا نغوص في أنفاسها.. مع صدى بوحه الشعري المتمرد.. لتتبدى لنا ذكرى الشاعر طافية على سطح الحرف الناري..
الهواء المنتفخ بالهواء
الذي يقيس الأبدية[]
حينما يتبدى كذكرى.
وهكذا أجد نفسي عند انتهاء جولتي الغريبة في مرعى عبد الجواد العوفير.. الشاعري الخصيب.. أنني أمام نبض متفرد.. له خاصية الحميمية ومصاحب لمرارة الواقع المادي..
ديوان " راعي الفراغ " مجموعة شعرية مليئة بالمفاجئات الشعرية المتفردة.. ركز فيها عبد الجواد العوفير شاعر الفراغ والريح على كلمات تحمل في طياتها تساؤلات عدة.. وتتحمل وقع دلالات عديدة .. البحر.. الريح.. العنكبوت.. القطار.. الظل.. أنا.. ( … ) .. هي روح الشاعر وتوأمه.. بل هي ذاته النرجسية العظيمة حسب إرادته..
[/]