مقالات ودراسات حول قصيدة النثر
منقول لتعميم الفائدة
مع الود طبعا
قصيدة اللاشكل ... قصيدة الأشكال المتعددة
عبده وازن
لم تعد قصيدة النثر العربية تحتاج الى من يدافع عنها، فهي باتت منذ قرابة خمس وأربعين سنة على نشوئها، قادرة تمام القدرة على هذا الدفاع، لا سيما بعدما بسطت جناحيها على الشعر الجديد والراهن. ولا يحلو لي أن أقول إنها انتصرت في «المعركة» التي شنت عليها منذ الستينات، مصحوبة بحملة من الاتهام والتخوين والتجريح. فهذه القصيدة ليس من طبيعتها أن تقف عند انتصار ما، لأنها ابنة التحوّل الدائم، والقلق الدائم، وقد فرضت نفسها بجمالياتها الخاصة وشعرياتها الفريدة.
أعترف انني لم أنتبه يوماً الى أنني اكتب قصيدة نثر. كلّ ما في الأمر انني اكتب قصيدة لا أقف عند عتبة اسمها. واعتقد ان هذا الشأن ينطبق على سائر الشعراء العرب الذين يكتبون هذه القصيدة تلقائياً. وهذا ايضاً ما يحصل في فرنسا، مسقط رأس قصيدة النثر، أما نقدياً فلم تمض بضع سنوات على وضع سوزان برنار كتابها الشهير «قصيدة النثر منذ بولدير حتى ايامنا» حيث لم يعد أي شاعر ينتبه الى أنه يكتب قصيدة نثر تحديداً عام 1959 حتى انحسر الكلام على قصيدة النثر وبدت نادرة جداً الكتب التي تناولتها لاحقاً، على خلاف الكتب النقدية الكثيرة التي تصدت للشعر الجديد ومدارسه وللشعريات الجديدة المتنوعة. وطوال عقدين وخصوصاً عقد السبعينات من القرن الماضي اختفت قصيدة النثر من المعترك النقدي لأنها «كرست» نفسها غير القابلة للتكريس أصلاً، منذ منتصف القرن التاسع عشر مع بودلير والينريوس برتران ومالارميه.
اعتقد اننا انتقلنا اليوم من مقولة «قصيدة النثر» الى مقولة نابعة منها ولكنها أشد رحابة هي مقولة «شعر النثر». ولعل المقاييس التي وضعتها الناقدة سوزان برنار، وهي: الايجاز والكثافة أو التوهج كما يحسن لبعضهم أن يقول والمجانية، لعل هذه المقاييس لم تبق قادرة على تحديد قصيدة النثر الراهنة في فرنسا نفسها وأوروبا والعالم العربي كذلك. هذا ما لحظه ناقد مثل تودورف عندما اعتبر ان صفتي أو معياري الايجاز والكثافة لا يمكن حصرهما في قصيدة النثر وحدها، لأنهما من معايير الشعر الحديث أياً كانت تجلياته. أما المجانية فيجب ان يفهم بها أن القصيدة لا غاية لها سوى نفسها وأنها موجودة لنفسها ولا هدف تعليمياً (ديداكتيك) لها ولا اجتماعياً ولا سياسياً. «شعر النثر» قد يكون خير وصف يمكن ان توصف به «قصائد النثر»، بحسب تسمية الناقد الفرنسي جوليان روميت والناقدة الفرنسية بريجيت بيركوف. فليس من قصيدة نثر واحدة ذات نظام مغلق ونموذج جاهز، بل ثمة قصائد نثر تختلف واحدتها عن الاخرى، شكلاً وأسلوباً وبنية ورؤية. لم يعد أي شاعر في فرنسا والعالم العربي يلتزم المعايير التي استخلصتها سوزان برنار بل ان «شعر النثر» تحرر تمام التحرر من المقولات الجاهزة ماضياً في حلم الحرية، الحرية المستحقة طبعاً ولو عادت سوزان برنار الآن الى الابتداع الشعري المراكم راهناً لاستخلصت معايير جديدة تختلف عن المعايير السابقة. فقصيدة النثر شهدت تطوراً هائلاً لا سيما بعدما اخترقت المدارس والانواع كافة. وهذا ما حدث عربياً مع الشعراء الذين اعقبوا حركة «شعر» من امثال سركون بولص وعباس بيضون وسليم بركات وبول شاوول وسواهم، ومع شعراء الاجيال اللاحقة وما اكثرهم. لئلا أقول المشروطة بحسب عبارة اوكتافيو باز. وما يجب الاشارة اليه ان ما كان يسمى شعراً حراً في فرنسا مثلاً تحرر في ضوء قصيدة النثر من سطوة الاوزان الجديدة والمتنوعة لتصبح قصيدة الشعر الحر قصيدة أسطر لا يحكمها وزن ولا قافية. وطرحت هذه القصيدة نفسها قريناً لقصيدة النثر الجديدة التي باتت تستعين بما توافر لها من اشكال لتصل الى اللاشكل القائم على ابتداع اشكال مجهولة وغير معروفة. هكذا عرفـــت قصيدة النثر الجديدة كيف توظف اشكالاً عدة لمصلحتها كالوصف والسرد المختصر والحوار والخاطرة أو الأفوريسم والمشهدي والحلمي وسواها.
واذا كانت قصيدة النثر بحسب سوزان برنار فسحة «للتوتر الشعري» فهي ايضاً مغامرة سافرة في اكتشاف منابع اللغة والاحتكاك بالمجهول وابتداع المفاجآت الساحرة، لغة وصوراً وعلاقات. وهذا «التوتر» الذي تتحدث عنه سوزان برنار هو رديف ما يسميه اندريه بروتون «بابا» السورياليين «التشنج» و «جمالية التشنج». ولعله يمثل ايضاً السبيل الى ما يسميه رامبو «تشويش الحواس» الذي أتاح له أن يكتب رائعته «الاشراقات». أما اللافت في قصيدة النثر فهو انها كانت ملتقى المدارس والتيارات، بعدما عبرتها الرومانطيقية أو جاورتها، وأجتازتها الرمزية والبرناسية والسوريالية والدادائية وسائر المدارس الحديثة. وظلت هذه القصيدة راسخة ومتحولة في الحين عينه. وقد يسأل سائل لماذا عمد كبار شعراء الوزن في فرنسا مثلاً الى كتابة قصيدة النثر؟ الم تكفهم الأوزان الفرنسية الكلاسيكية والحديثة للتعبير عما يجيش في داخلهم وعن نظرتهم الى العالم؟ لنتصور رامبو شاعر «المركب السكران»، تلك القصيدة الموزونة الشهيرة، ينادي بتخطي «الشكل العجوز» للشعر، كما يعبّر. وشعريته البديعة والغريبة تفجرت في قصائد النثر وليس في الشعر الموزون. فهذا الشعر كان عاجزاً حتماً عن تحمل تجلياتها الوحشية و «الصوفية» والجحيمية والفردوسية. لم تغر قصيدة النثر شاعراً مثل بودلير أو مالارمية أو جيرار دونيرفال. لم تغرهم فقط قصيدة النثر بل كانت حافزاً لهم على عيش الزمن الحديث ومواكبة المدينة الحديثة وقد وجدوا في هذه القصيدة، امكانات خلاقة خربطت طبيعة الشعر نفسه. وقد لا تخلو هذه القصيدة من الاغراء حقاً أولاً في طلاوتها ورحابتها على رغم مبدأ الاختصار وفي تخليها ثانياً عن الاطراد أو الانتظام الرتيب للوزن. وقد استطاعت هذه القصيدة فعلاً أن تخلق موسيقاها الخاصة أو الموسيقى الاخرى وهي ليست تلك التي تولدها الايقاعات المنتظمة والعودة المنتظرة للقوافي. انها الموسيقى الاخرى، الداخلية والصوتية، الاشد تنافراً وتناغماً في آن واحد والأقل توحداً وملاسة. بدت قصيدة النثر للوهلة الاولى انها ضد وحدة «الصوت» وضد وحدة «الدهشة». فهي التي تستوحي الحياة الحديثة كان لا بد لها من أن تتمكن من احتواء الاصوات المتنافرة والانقطاعات والانغام الناشزة. انها قصيدة الضوضاء وقصيدة الصمت وقصيدة الصراخ. وكم اخطأ الذين رأوا أن قصيدة النثر خلوٌ من الايقاعات. فهذه القصيدة يستحيل عليها أن تنهض بعيداً عن الايقاع الذي هو ايقاع اللغة أولاً واخيراً، وعن المؤثرات الصوتية التي ترتكز اللغة عليها اصلاً. ولعل أهم وصف أو تحديد لقصيدة النثر هو ذاك الذي وصفه بودلير قائلاً: «مَن منّا لم يحلم بمعجزة نثر شعري، موسيقي بلا وزن ولا قافية، لين ومتنافر، كي يتآلف مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات الحلم وارتجافات الوعي؟». مثل هذا الوصف أو التحديد يرسّخ الطابع الحر الذي اتسمت به قصيدة النثر. وهو عوض ان يحدّ هذه القصيدة ضمن معايير معينة فتح أمامها باب الحرية لتكون قصيدة المستقبل والمستقبل الذي لا تخوم له. بات من المسلّم به أن الوزن لم يكن يوماً ليصنع قصيدة. الوزن وحده ليس غاية البتة. وليس من المهم تقديس قواعد الوزن، بل المهم هو الوفاء للتناغم الداخلي، التناغم الكامن في روح الشاعر، والوفاء للرؤيا والاستيحاء الخلاق والدهشة والحلم. المهم احترام «التجربة الداخلية» للشاعر والقارئ بدوره. والشعر كما علمنا التاريخ يستحيل حصره في شكل واحد وطريقة واحدة في الكتابة وفي اسلوب واحد. وفرادة قصيدة النثر تكمن في أنها نشأت من رفض الثبات في الانواع، وقد رفضت هي نفسها أن تُحدّد أو ان تتميز كنوع جديد. هذا ما يؤكده تعدد الاشكال فيها، وغياب الإكراه أو الارغام الذي يمارسه المضمون عادة أو الأسلوب. انها قصيدة الحرية والخلق الذي لا حدّ له. وفي هذا المعنى ليست قصيدة النثر نوعاً اضافياً بل يضاف الى سائر الانواع، انها كينونة اساسية في الشعر الحديث. وقد علمتنا هذه القصيدة ان الكتابة الشعرية حرة ويجب عليها ان تكتشف كل مرة. انها القصيدة المغامِرة، القصيدة التي لا تستسلم لأي يقين، القصيدة التي تشكّك في العالم مقدار شكها في نفسها. وجدت قصيدة النثر لتكون نقيض اليقين، أي لتكون قصيدة الاختبار الذي لا حدود له. انها قصيدة القلق، قصيدة التمرد الدائم، قصيدة الاكتشاف الدائم. انها القصيدة الاكثر حرية، القصيدة الأكثر استحقاقاً للحرية. انها الصيغة الشعرية الفردية او الشخصية التي تظل تعصى على أي تحديد نهائي. هكذا صنعت قصيدة النثر ما يشبه الاستقامة الجديدة، وأرادت لنفسها ان تكون شهادة ورؤيا في الحين عينه.
انها قصيدة المستقبل، بل قصيدة مستقبل المستقبل.
المقالة الثانية :
رامز النويصري / قصيدة النثر في ليبيا
قصيدة النثر في ليبيا
في منتصف سبعينات القرن الماضي، صار من المقبول قراءة هذه النصوص التي لا تمت للوزن ولا تتماش معه، وإن كان البعض قد ألمح أن بدايات السبعينات ذاتها شهدت ممارسة البعض لمثل هذه الكتابات، إلا إن (قصيدة النثر) بدأت كنص يفرض نفسه على أعمدة الصحف وصفحات المجلات في النصف الثاني من السبعينات بشكلٍ يؤكد حضورها وحضور شعرائها، الذين كانوا إما شعراء اختاروا قصيدة النثر (وهنا تكون القصدية هي المحرك، في الكتابة بهذا الشكل)، وإما شعراء أرادوا خوض تجربة الكتابة خارج الوزن بعد أن كتبوا النص التقليدي والتفعيلي (وهنا تكون القصدية بغاية التجريب).. لكن الثابت أن فترة الثمانينات1.. هي الفترة الخصبة، والفترة التي تكونت فيها (قصيدة النثر) في ليبيا وشكلت من خلالها منهجها واتجاها، بحيث كانت هذه الفترة فترة التجريب الكبرى التي كتب فيها الشعراء وتحركوا فيها في أكثر من اتجاه، حيث شهدت هذه العشرية صدور أولى مجموعات (قصيدة النثر)2، وكانت للشاعر "عبداللطيف المسلاتي" بعنوان (سفر الجنون/1) الصادرة في طبعتها الأولى بتاريخ 1980، عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، وتشير التواريخ المثبتة في نهاية القصيدة الأولى أنها نشرت في العام 1976، منشورة في ثلاث مطبوعات محلية هي: صحيفتي الأسبوع الثقافي والفجر الجديد، ومجلة الفصول الأربعة.
الثمانينات لم تكن مجرد عشرية عادية بالنسبة لحركة الشعر الليبي، لقد كانت أحد أخصب المراحل إنتاجاً، فنشرت في هذه العشرية 40 مجموعة شعرية، بينها 15 مجموعة شعرية (قصيدة نثر) بنسبة تمثل 37.5 % وهي نسبة مرضية لمجموع سبعة شعراء توزعت مجموعاتهم الشعرية كالتالي (بحسب الإصدار الأول للشاعر):
1- عبد اللطيف المسلاتي، مجموعتين شعريتين: سفر الجنون/1، سفر الجنون/2.
2- محمد الكيش: مجموعتين شعريتين: عن بهية والزمن الأخضر، كتاب المراثي.
3- محفوظ أبوحميدة: مجموعة شعرية واحدة: يبتغيك الفؤاد قريبة.
4- عبدالرحمن الجعيدي: ثلاث مجموعات شعرية: أحبك من البحر إلى دمي، أغان على أرصفة الضياع، مقاطع ممزقة للوطن والحب.
5- فوزية شلابي: خمس مجموعات شعرية: في القصيدة التالية أحبك بصعوبة، بالبنفسج أنت متهم، فوضوياً كنت وشديد الوقاحة، عربيداُ كان رامبو، والسكاكين أنت لحدها يا خليل.
6- عائشة المغربي: مجموعة شعرية واحدة: الأشياء الطيبة.
7- زاهية محمد علي: مجموعة شعرية واحدة: الرحيل إلى مرافئ الحلم.
وموازاة لهذه المجموعات كانت حركة النشر من خلال الصحف والمجلات، تؤكد حضور (قصيدة النثر) وحضورها القوي، الذي يعبر كونها الشكل الذي أخذ أكثر الشعراء إلى عوالمه.
وإن عدنا إلى بدايات (قصيدة النثر) في ليبيا وظهورها كشكلٍ أدبي، نرى أنهُ لم تثر حولها أياً من المناقشات أو الحوارات، حتى إنها لم تتعرض للمواجهات الحامية التي تعرضت لها (قصيدة النثر) عربياً، حتى إن بعض هذه الخلافات تم استيرادها من تلك المواقع التي حمى فيها الخلاف، وإن كانت بعض الحوارات الحامية حدثت فعلاً ضمن نطاقات ضيقة ومحدودة من خلال اللقاءات، لكنها كانت تفتقر إلى محاور النقاش الأساسية وأيضاً لتشبث كل طرفٍ بما له، لذا فإننا نستطيع القول أن (قصيدة النثر) في ليبيا لم تعاني الكثير من أجل أن تتميز نصاً وشاعراً، بل إن هناك بعض الشعراء الذين تخلوا عن الوزن باتجاه انفتاح (قصيدة النثر) على عوالم أكثر اتساعاً.. ونستطيع القول أن هذا النص عاش بتجاور تام مع أشكال الكتابة الشعرية الأخرى، دون أن تكون أياً من صدامات (النثر× الشعر)، ولعلنا نعيد هذا إلى طبع الثقافية الليبية الذي يفتقد حقيقية للعمق الذي يمكنه من اتخاذ موقف ثقافي تجاه أياً من أجناس الكتابة أو الإبداع الجديدة، فطبيعة التكوين الثقافي الليبي طبيعة التأثر، والتتلمذ (حتى هذه اللحظة نكاد نلمس الكثير من مظاهر التتلمذ والتأثر).. وطبيعة التلميذ تجعله دائماً وفيَّ السمع لكل ما يقوله له أستاذه، وهو (الشرق) الذي كان الأستاذ الأول للثقافة في بلادنا، فلقد ظلت ليبيا تعيش حالة من ألا توازن حتى الخمسينيات، لتتمتع بنوعٍ من الاستقرار يكفل لها النظر إلى داخلها وإلى شؤونها، للوقوف على أرضها ومن ثم الانطلاق بثبات.. طبيعة التتلمذ هذه كانت تعني في مستوى موازي عدم النظر إلى ما يمكن أن يتكون من رصيد، ولأنه لم يتم الالتفات إلى هذا الرصيد إلا متأخراً (في تسعينات القرن الماضي)، فإننا ظللنا ننظر إلى الشرق الرائد الذي لا يكذب أهله، ومصدر النور الوحيد الذي منه تأتي المعارف والعلوم.. ولقد تأثر الكثير من شعراءنا بشعراء الشرق حد التناص، سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى النصوص.. وفي نهاية الستينيات يكتب أحد النقاد، أن الشعر في ليبيا بعد أن أنفلت خارج حدود الوزن والصورة الشعرية العربية، تحول إلى شعر (نواقيس وصلبان)، مشيراً لأثر بعض المطبوعات مثل: (الطليعة)، (الكتاب)، (الآداب) البيروتية، في تكوين النص الليبي، فكراً وشكلاً.
لكن السبعينات بدأت تشهد التغيير الفعلي، والتأثر أكثر، لتكون الثمانينات شكل هذا التأثر الجديد، فبعد أن كان التأثر بما يأتي من الشرق في شكل نتاجٍ أدبي (شعر، قصة، رواية)، بدأ التأثر في مستواه الثاني بالترجمات التي بدأت تأتي مواكبة للأسماء الشعرية الغربية الكبرى، والتي فتحت الآفاق ناحية معاني جديدة للصراع وأكثر فلسفةً، لتكون أسماء من أمثال: بودلير، إليوت، رامبو، بابلونيرودا، كافكا، لوركا.. وفي مستوى ثاني كتاب وروائيون من أمثال: أرنست همينجواي، تولستوي.. أهم المحركات والمكونات الجديدة.. فإن كانت حركة النص الشعري في ليبيا لم تعول على رصيدها (بفضل الأستاذ)، فإن (قصيدة النثر) نشأت بانقطاعٍ تام عن مكانها محلياً، باتجاه النموذج العربي والنموذج الغربي (مترجماً)، لذا بمجاوزة ربكة الظهور الأول في السبعينات، فإن الخطوة الثاني كانت آكد ناحية تأكيد فاعلية النص، ولو اتجهنا إلى للمجموعات الصادرة في هذه الفترة أكثر تجريباً وتعويلاً على النص، ناحية كونه الشكل الذي سيكون محل التجربة، أو الإطار العام للتجربة.. وبذا فإننا في هذه البداية سنلمح بشكل واضح سعي النص باتجاه تبني فلسفته الخاصة، كما تقدمه تجربة "الشاعر/عبداللطيف المسلاتي" باعتماده بشكل مبكر تقنية (حساب الفقرات).. ومجرد الرصد كما في تجربة "الشاعر/محفوظ أبوحميدة"، أو أن تتعدد إحالات النص، وتتجه صوب البحث في الموروث العربي بشكل واضح كما في تجربة "الشاعر/محمد الكيش"، أما النص بشكله المستقل فقد قدمه "الشاعر/عبدالرحمن الجعيدي" في شكله الخالص للنص، بينما يتحول النص إلى رغبة الخروج والثورة في تجارب الشاعرات "عائشة المغربي" و"زاهي محمد علي" وبشكلٍ مميز من خلال تجربة "الشاعرة/فوزية شلابي".. وأن كان النص في غالبه يجنح عند الشعراء باتجاه استخدام الفقرة، أو التفقير، إلا أنه حتى هذه اللحظة ظل يعول على عمودية البناء، بحيث يخلص النص في بنائه إلى البداية والنهاية.. لكننا بالدخول إلى التسعينات نكون قد دخلنا بتجربة (قصيدة النثر) خطوة جديد.
وإن سمح لي بالوقوف قليلاً.. فإني أنبه إلى إن (قصيدة النثر) في شكلها الخارج عن الأنظمة، والطامح أكثر ناحية التغيير، كان يوازي رغبة الانطلاق لدى الأنثى، ومحاولة قفزها السور الدائر حولها، لذا فإنها آمنت بهذا النص إيماناً كاملاً، بأنه الشكل الأقدر على منحها الصوت الذي تريد، والعالم الأكثر رحابة دون قيود3.. لذا فإن عشرية الثمانينات (تحديداً أواخر السبعينات) شهدت ظهور أكثر من شاعرة.. لتقدم الثمانينات مجموعة أخرى من الشاعرات، وهكذا.. ولو قرأنا هذا الظهور من وجهه الآخر، بقراءة النص، لأمكننا الوقوف على إمكانيات (قصيدة النثر) التي تم استثمارها في كتابة النص.
أمّا لو وازينا المشهد من خارج المجموعات المنشورة، من خلال ما ينشر في الصحف والمجلات، لأمكننا التأكد من مشروع النص الجديد الذي بدأ يكتب، والذي بدأت تتأكد معالمه من خلال محاولات متميزة، لبعض الشعراء من الاشتغال بهذا النص (لعل من ميزات الثقافة الليبية إنها لا تنحاز للكتاب كثيراً، فالكثير من إرثنا الثقافي لازال موجوداً في الصحف والمجلات، حتى إننا يمكننا اعتبار أن ثقافتنا المحلية أكثر ما اعتمدت كان على الصحف والمجلات، لذا فإني أعول عليها كثيراً في قراءة المشهد الشعري في اكثر آفاقه اتساعاً.. إنه البحث عن قاعدة تضمن الأكثر لا الكثير)
وكذا كانت التسعينات ، درباً أكثر إيكاداً للتعويل على هذا النص.. فظهرت مجموعة من الأسماء المهمة، في المشهد الشعري الليبي، إضافة إلى مجموعة الثمانينات (أو من بقى منهم معولاً على الشعر)، ويمكننا أن نلمس في التسعينات الخط الثاني في (قصيدة النثر)، إذ صار النص أكثر انقطاعاً عن منجزه السابق، فبعد أن كان التراث ومحاولة خلق إيقاعات تعويضية في (قصيدة النثر)، تم الانحياز أكثر للنثري، أو ما يمكننا أن نسميه (الإخلاص للنثر) باعتماد اللا إيقاع، أو حالة الإيقاع إلا متزنة. فصار الانحياز أكثر للتعويل على آليات السرد (بدا النظام السردي واضحاً عند مجموعة من الشعراء، منهم: "مفتاح العماري"، "عمر الكدي"، "حواء القمودي" وفي مستوى مقابل "عبدالمنعم محجوب") وفي مستوى موازي الأخ بنظام التفقير وأسطر أو الوحدات (وهذا بشكلٍ واضح عند: "محمد الكيش"، "محي الدين محجوب")، أو بالانقطاع إلى النثر أو النثرية (ويعتبر الشاعر "عاشور الطويبي" أحد أهم الأسماء)، أو النص المتعدد الآفاق، وهو يزاوج بين نظام السرد وآلية القطع والمجاورة (وهو ملمح يتفق في أكثر الأسماء، ونتمكن منه بقوة عند: "سالم العوكلي"، "عبدالسلام العجيلي"، "عائشة المغربي")، ولعلكم لاحظتم أني أخص من الشعراء من توفر لديهم القصد في كتابة (قصيدة النثر)..
وأقف مجدداً.. خاصة مع التواجد القوي للخط الثالث (أسمح لنفسي كثيراً بجواز التسميات)، وانحيازه التام لهذا المنجز الحداثوي.. حيث تأكدت بهذه الصوت خصوصية النص بشاعره، ودوران هذا النص في ذاته، وارتكابه اليومي، بأكثر حدة وعلانية..
لكن أهم ما يميز المناخ الثقافي في بلادنا، أو النص الشعري في ليبيا، هو صفة الفردانية أو فردانية الصوت، بحيث إنك في هذا المشهد تستطيع أن تستمع لجوقة تتمتع بقدرٍ كبير من التميز على مستوى الأصوات، وفي ذات الوقت تنتظم في لحن واحد، هو شكل المحيط العام، حتى لكأننا نستطيع أن نقرأ النصوص جميعها في نصٍ واحد.
وإن كنا لن نستطيع قراءة هذه التجربة في هذه المقاربة العجول، إلا أن الغاية باستكمال هذه المقاربة هو ما يمهلنا للقاء قريب.
هوامش:
* جزء من دراسة عن قصيدة النثر في ليبيا.
1- في هذا نشترك وتجربة (قصيدة النثر) في المغرب العربي، الذي لا يختلف كثيراً بالحال عنا.
2- في العام 1975 صدرت مجموعة (خمائل الصمت) للشاعر/الشارف الترهوني، وهي مكتوبة خارج أوزان الخليل، لكننا لا نستطيع أن نضمها إلى (قصيدة النثر) كونها أقرب إلى الخواطر، أو النثر الشعري.
3- وردت هذه الإشارة بأكثر توضيحاً ضمن الورقة المقدمة ضمن فاعليات (ندوة الكتابة النسائية في ليبيا-27-29/5/2000) بعنوان: (كيف تكلمتِ الخطاب؟).
المتوسط للدراسات والبحوث
رامز النويصري
مجلة المقتطف الألكترونية
المقالة الثالتة
أوهام وضلالات حول "قصيدة النثر" ل (سمير درويش)
أوهام وضلالات حول "قصيدة النثر"
سمير درويش
لاشك أن كل الأشكال الجمالية الجديدة، في أي نوع من أنواع الأدب، تحتاج إلى وقت، طال أم قصُرَ، لتستقر وتعطي نفسها ببساطة لاجتهادات النقاد، ذلك أنهم ـ أي النقاد ـ لا يستطيعون التخلص ببساطة، ولا بقرار لحظي، من سلطة القناعات السابقة التي ورثوها وتدربوا على التعامل معها سنوات طوال، ومن هذا المنطلق، يكون مفهوماً جداً ومنطقياً معارضتهم الكبيرة لأي محدثة تخلخل قناعاتهم المستقرة، واعتبارها بدعة وضلالة تقود صاحبها إلى الجحيم، فهو الخيار السهل بالنسبة للأغلبية الراكنة إلى سلطة المألوف. الأدباء السابقون ـ كذلك ـ لا يقلون معارضة لهذه الأشكال، ليس ـ فقط ـ لأن قناعاتهم تنحاز إلى الأشكال التي تربوا عليها ومارسوا كتابتها، ولكن ـ كذلك ـ لأسباب نفسية تتعلق بقدرة الجديد على جذب الانتباه واحتلال المساحات الفارغة دائماً.
على أن هذه المعارك المستعرة كانت تدور رحاها حين يتجرأ شاعرٌ أو أكثر على أداة واحدة من أدوات كتابة الشعر: اللغة والموضوع ـ أو الغرض ـ والصورة والإيقاع.. فـ(الرواة) قديماً لم يتسامحوا مع الشعراء الذين حاولوا تبديل أغراض القصيدة التقليدية، فاستبدلوا البكاء على الأطلال بمقدمة غزلية، وهجروا الأغراض المتعددة في القصيدة الواحدة إلى الكتابة عن غرض واحد، كالغزل مثلاً، ولم يغفروا للشعراء الذين عبثوا بالشكل الموروث للقصيدة، واستحدثوا لها أشكالاً مغايرة كالمخمسات ولعبوا في أحرف القافية والرويّ.. الخ.
كانت المعاركُ ـ إذن ـ واضحةً بما يكفي لاصطفاف المرء مع أيٍّ من الفريقين حسب قناعاته، بعكس المعركة التي تدور حول "قصيدة النثر" الآن، فقد تداخلت فيها المفاهيم والحدود بشكل صعَّبَ على المتابعين، وحتى على كثير من المشاركين، فك الاشتباك بين الأسئلة الأولية فيها: ما هي "قصيدة النثر"؟ بل ما هي القصيدة وما هو النثر وما هو الشعر؟ وهل يمكن الجمع في مصطلح واحد بين القصيدة والنثر؟ ما هو الإيقاع وما هي الموسيقى؟ وما علاقتهما معاً بالوحدات العروضية المتساوية؟ هل تعد أبحر الخليل بن أحمد حاكمة للأشكال الإيقاعية التي وجدت في الشعر العربي قبله؟ وهل هي لازمة لكتابة الشعر بعده؟.. الخ.
على أن هذه الأسئلة، على صعوبتها وتغلغلها في مسلمات كتابة الشعر، تعد العنصر الأبسط والمفهوم في المعركة الدائرة الآن حول "قصيدة النثر"، حيث تمتلئ ـ المعركة ـ من وجهة نظري بالكثير من الأوهام والضلالات، وتتردد فيها أصوات متعارضة بشكل لم يسبق له مثيل، ينقض بعضها بعضاً، وتكرس لمفاهيم شديدة التعارض باقتناع يصل إلى حد اليقين، تأتي ـ الأوهام ـ من المحسوبين عليها بأكثر مما تأتي من خصومها، بشكل يجعلني أقبل بعض أفكار (الخصوم) بينما أرفض بعض أفكار (الأصدقاء)، وأحياناً أرفضها كلها، بل وأذهب إلى حد إعادة تعريف الخصوم والأصدقاء تبعاً للأفكار التي يتطوعون بطرحها!
"القصيدة الخرساء" و"قصيدة النثر":
من الأوهام والضلالات التي تثار حول "قصيدة النثر" العربية ما يتعلق بالحديث حول نشأتها.. إذ يتردد كثيراً أنها بدأت منذ نحو مائة عام، أي قبل "قصيدة التفعيلة" نفسها! هذا الرأي يردده خصوم هذا النوع الأدبي وبعض أصدقائه على السواء، وهم ينطلقون في تأريخهم من اعتبار "الشعر المنثور" أو "النثر الفني" أباً شرعياً لـ"قصيدة النثر"، مستمدين شرعية هذا الرأي من استغنائهما عن العروض الخليلي، وبالتالي يعتبرون كتابات حسين عفيف والرافعي والمنفلوطي وأحمد أمين وكتابات المتصوفة: النفري وابن عربي.. على سبيل المثال، تراثاً لها. هذا الفهم قاد الخصوم إلى اعتبار "قصيدة النثر" قصيدة خرساء أو شعراً ناقصاً لأنها تستغني عن أحد أدوات كتابة الشعر وهو الإيقاع، وقاد الأصدقاء إلى الفرح بوجود تراث عربي لهذا النوع، ينفي عنه تهمة الاستيراد من الغرب، تلك التهمة التي قادت بعضهم إلى الذهاب إلى النقوش الفرعونية على جدران المعابد بحثاً عن "قصيدة نثر"!
وأنا أتفق تماماً مع الخصوم من اعتبار "الشعر المنثور" شعراً ناقصاً، لأنه ـ في الأساس ـ كُتبَ بأدوات القصيدة الكلاسيكية مستغنياً عن أحد أركانها، إن عن قصد أو عن جهل بالإيقاع. وأختلف ـ تماماً، في الوقت نفسه ـ مع الأصدقاء، أو الذين يعدون أنفسهم أصدقاء، عندما يتمسحون في الأشكال الأدبية القديمة بحثاً عن شرعية لما يكتبون، أو ما يتصورون أنهم يكتبون! فليس لـ"قصيدة النثر" ـ من وجهة نظري ـ علاقة بالشعر المنثور الناقص، ولا بالنثر الفني وكلام المتصوفة، والأقرب أنها جاءت إلينا من الشعر الغربي عموماً، لا الفرنسي على وجه الخصوص، لكنها تكتسب تميزها عن النماذج الغربية من كون الذين يكتبونها "شعراء" "عرب"، أضفوا عليها نكهة الشعر، وتاريخ المفردة العربية المحملة ـ رغماً عنا ـ بحمولات شعرية لا سبيل للفكاك منها.
"قصيدة التفعيلة" كما يطلقون عليها هي قصيدة كلاسيكية تنهض على المسلمات الراسخة لكتابة الشعر العربي، ليست انقلاباً عليها كما يحلو لكثيرين أن يصوروها طلباً لريادةٍ ما، فالحد الفاصل بينها وبين نموذجها الأصلي يقل ـ أحياناً ـ عن مثيله بين النموذج وبعض المحاولات السابقة، إن على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.. و"الشعر المنثور" هو أحد تجلياتها بامتياز: ينحو إلى الرومانسية في تناول علاقة الذات بالآخر.. المحبوب والوطن والكون، ويستخدم المعجم الذي يتناسب معها: الشوق والهجر والخصام والليل والنجوم والسهر والبحر والطيور والسماء والضياء.. الخ، ويهتم بالصورة الشعرية التي كانت سائدة فيها وقتها.. الاستعارة المكنية وبدايات المجاز، وما استغنائه عن الإيقاع الخليلي ـ في الغالبية العظمى ـ إلا لجهل به، لا لرغبة في التجديد.
يرتبط بهذا الوهم أيضاً ـ وهم النشأة ـ فكرة اعتبار أن تجربة شعراء "جماعة شعر"، التي تكونت في لبنان بداية ستينيات القرن العشرين، ومن سار على نهجها من شعراء السبعينيات في مصر وبعض الدول العربية، تجربة نثرية، ذلك أنهم قصدوا إلى كتابة هذا النوع قصداً، بل هم من أطلق عليه اسم "قصيدة النثر" نقلاً عن المصطلح الفرنسي.. إلى آخر ما يقال في هذا الشأن. وأنا أرى أن هذه التجارب مهمة في محاولة (إحياء) الشعر العربي الذي كان قد مات إكلينيكياً قبل البارودي وشوقي وحافظ وأقرانهم، ثم عاد إلى صورته الأولى على أيديهم ـ عن طريق تنشيط القلب ـ وقتاً قصيراً، قبل أن يأتي آخرون بمسكنات جديدة في محاولة لإحيائه من جديد، على شكل "قصيدة التفعيلة" أو "القصيدة الحداثية" التي كتبها شعراء "جماعة شعر" وشعراء السبعينيات، والتي أعدها جزءاً أصيلاً من القصيدة الكلاسيكية العربية، وإن تخلت عن العروض الخليلي في بعض نماذجها، إذ ما الفرق ـ فنياً ـ بين القصيدة الموزونة التي كتبها محمد عفيفي مطر، والقصيدة غير الموزونة ـ أو المكسورة ـ التي كتبها أدونيس أو محمد الماغوط، بل والقصيدة التي كتبها الشاعر حلمي سالم الذي ينتمي إلى جيل السبعينيات ويضعونه ـ بقوة ـ على رأس شعراء "قصيدة النثر؟.. "قصيدة النثر" ليست قصيدة تفعيلة مكسورة كما يعتقدون، ولكنها قصيدة ذات سمات فنية ورسالة، سأجتهد لبيان بعضها لاحقاً.
يقول محمد عفيفي مطر في قصيدة "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت":
"منسرباً من ضباب الحلموالنداءات البصيرة
اتئد..
يا سيد الشعراء
صرت واحدُها
وهى أعضاؤكانتثرت
بعيون كليلة..
ينسج الفجرَ عناكبُالترقب
فارتقب/ ـ بشراك الغضب ـ
يجلو الفجرَ نارُ الحرائق/ فاتّقد
ـ بشراك انتثار الخلائق".
ويقول أدونيس في قصيدة "أبجديةٌ ثانية":
"شوارع، أنهارٌ تحكُّ ضفافها بموسيقى التاريخ
يغني الياسمين بصوت خافت، ويدور في الأزقة حافياً
دمٌ أبيضُ على فراش القمر
لا تضع سلة الغبار في يد الريح
يجيء الشقاء معجونا بيد الله، مختوما بخاتمه،
ويجيء الفرح هاربا في ثياب
وردة تكاد أن تذبل
لكل نجمة طبل والفجر ناي مكسور".
ويقول حلمي سالم في قصيدة "التين والزيتون":
"يهبط الخضر على كاهل الفتاة ساعة الغروب،
فتوزع الماعز على عشب السهول.
والمرأة التي اشتق الإله جلدها من الخمر
تطعم القطط حين انتصاف الليل
قبل أن تتلاشى روح سندريللا
وتقيس حديقة الليل بأكمام القميص".
فلسفة الصورة الشعرية واحدة في النماذج الثلاثة، تقوم على المجاز الذي يباعد ـ إلى أقصى مدى ـ بين المشبه والمشبه به، أو ـ كقولهم وقول نقادهم ومنظريهم ـ تبحث عن المؤتلف في المختلف: فالفجر ينسج عناكب الترقب ويجلو نار الحرائق عند مطر، وللحلمِ ضبابٌ والنداءات (جمع نداء) بصيرةٌ تبصرُ. والفجرُ ـ نفسُهُ ـ نايٌ مكسورٌ عند أدونيس، والأنهارُ تحكُّ ضفافها بالموسيقى، والياسمين يدور في الأزقة حافياً. والخضر ـ عند حلمي سالم ـ يهبط على كاهلِ فتاةٍ فتوزِّعُ الماعزَ على العشب، والمرأة اشْتُقُّ جلدُهَا من الخمر وتقيس حديقة الليل بأكمام القميص. فبأيِّ منطقٍ يضعون قصيدة مطر في خانة ما يسمونه "قصيدة التفعيلة"، بينما يضعون قصائد أدونيس وحلمي سالم في خانة "قصيدة النثر؟!
النقطة الأخيرة التي تتعلق بالأوهام حول "قصيدة النثر" تتمثل في البحث المستمر عن الشعري في النثري! وهو أكبر الأوهام ـ في نظري ـ على الإطلاق، وأخطرها، ذلك أن الغالبية العظمى من شعراء "قصيدة النثر" ينساقون خلف خصومهم بلا وعي، يحاولون إثبات أن هذا النوع يقدم شعراً أيضاً، فيحاولون إقحام صورٍ شعرية تقليدية ضمن سياق قصائدهم النثرية، تنتمي ـ غالباً ـ إلى منطق "قصيدة التفعيلة" في تجليها الأخير الذي يطلقون عليه اسم "القصيدة الحداثية"، ويقفون ـ دون دراية ـ على نفس الأرض مع التقليديين حين يتعلق الأمر بتفسير ما هو شعري وما هو غير شعري.
يقولالشاعر المصري محمود قرني في إحدى قصائد ديوانه "أوقات مثالية لمحبة الأعداء" الصادر عن دار ميريت:
"الوطن الآن ينام قرير العين
بينما شخيره يُضجر الملائكة
الوطن ينام دون عساكر الدرك
دون نوبات حراسة
حيث لم يعد هناك
ما يخشى عليه
لقد أصبح عارياً كما ولدته أمه
وليس هناك من يستر عورته".
والشاعر الكويتي صلاح دبشة يقول في إحدى قصائد ديوانه "سيد الهواء":
"خطاي تهف على الأرض
نحوكِ
تتقاطع حولها دوامات هواء وأغبرة
على تدحرج ثمرة مشوهة
من نقر العصافير
أتفوق على الأحجار والهواجس
وجسمي يرفع ظلال الأجسام عن الطريق".
فالوطنُ ينام دون عساكر درك عند قرني، وله شخير يضجر الملائكة، والخطى تهفُّ على تدحرج ثمرة مشوهة عند صلاح دبشة.. أليس هذا منطق الصورة التقليدية ذاته؟.
لقد أضاع شعراء "قصيدة النثر" وقتاً طويلاً في البحث عن الشعري في النثري.. فاجتهدوا في بث عناصر البلاغة التقليدية في قصائدهم، وأضاعوا وقتاً طويلاً ـ كذلك ـ في إثبات أن لشعرهم إيقاعه الخاص الذي يعد بديلاً عن الإيقاع الخليلي، فأجهدوا أنفسهم في (اقتراح) أشكال إيقاعية جديدة، كتكرار حرف بعينه أو جملة بعينها.. بينما ليس مطلوباً من أي تغيير أن يثبت جدارته بأدوات القديم الذي جاء أساساً لتغييره والثورة عليه. إنهم يهاجمون حجازي ويفعلون فعله، حين كتب قصيدة عمودية في هجاء العقاد!
جماليات "قصيدة النثر":
قبل أن أتحدث عن جماليات "قصيدة النثر" كما أراها، أود أولاً أن أجيب عن سؤال مهم، هو: هل "قصيدة النثر" نوع أدبي عربي؟ والحقيقة أن هذا السؤال على سذاجته سؤال مهم جداً، ذلك أن كل خصوم "قصيدة النثر" يُجْهِدُونَ أنفسَهُمْ لانتزاع اعتراف بأنها نوعٌ أدبيٌ مستوردٌ ليست له جذور عربية، ويعتقدون أن هذه النتيجة تريحهم، إذ تُخرجها من ملف الشعر العربي نهائياً، ناسين ـ أو متناسين ـ أن كون الرواية فن مستورد لم يمنع من وجود روائيين عرب كبار يضيفون إلى النوع، ويقفون إلى جوار ـ بل يتقدمون على ـ كبار الروائيين العالميين، وليس حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الرواية هو الدليل الوحيد. والأمر نفسه ينطبق على كُتَّاب المسرح والسينما والقصة القصيرة.. الخ.
أنا ـ بالفعل ـ أميل إلى كون "قصيدة النثر" شكل شعري أجنبي.. لكن ذلك لا يخرجها من ملف الشعر العربي كما يريدون، ذلك أنها ـ كما أسلفت ـ تُكتب باللغة العربية المحملة بدلالات تاريخية عميقة يصعب الفكاك منها، إلى جانب أن من يكتبها (شعراء) عرب، يحملون ثقافة وتراث وأوجاع المواطن العربي الذي يعبرون عنه.
الفارق الجوهري ـ إذن ـ بين "قصيدة النثر" وقصيدة التفعيلة ليس الوزن الخليلي، فقد أوردتُ قصائد موزونة وأخرى غير موزونة وبينتُ عدم وجود فروق فنية بينها، لكن الفرق يكمن ـ كما أعتقد ـ في عدة سمات تتصل بجماليات الشعر نفسها.. منها:
أولاً: أن "قصيدة النثر" مكثفة جداً، لا مجال فيها للإفراط في استخدام اللغة وتداعياتها، تصل إلى قارئها من أقصر الطرق وباستخدام أقل عدد ممكن من الألفاظ، فهي بناء محكم يستمد جماله من نظامه المتماسك الذي يصعب العبث فيه بالحذف أو الإضافة، بعكس البناء الفني المنبسط للقصيدة الكلاسيكية التي غالباً ما تصل رسالتها من سطورها الأولى، ثم تستمرئ الإطالة بهدف جلب متعة أكبر للمتلقي ـ أو هكذا يعتقد فرسانها ـ من خلال مزيد من الصور الفنية الفارقة، أو الألاعيب اللغوية المدهشة.
فإذا قرأت ـ مثلاً ـ قصيدة شوقي: "تكليل أنقرة وعزل الآستانة"، وأنا اخترتها بشكل عشوائي، ستجد أن ثمانية أبيات متتالية تصف الآستانة (ويسميها فروقُ) بشكل استاتيكي، لا يراكم البيت الشعري فوق الذي يليه سوى اقتراح صور شعرية لا وظيفة لها، يقول:
"مني لعهـدكِ يا (فروقُ) تحيـةٌ
كعيون مـائكِ، أو ربـى واديكِ
أو كالنسيم غدا عليكِ، وراح من
فوف الرياض، ووشيها المحبوكِ
أو كالأصيـلِ جرى عليك عقيقهُ
أو سـال من عقيـانه شـاطيك
تلك الخمـائل والعيون، اختارها
لك من رُبَـى جنـاته بـاريك".. الخ.
ويقول محمود درويش في قصيدة "مقهى وأنت مع الجريدة" من ديوان "كزهر اللوز أو أبعد":
"كم أنت حر أيها المنسي في المقهى!
فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،
لا أحدٌ يحملقُ في حضورك أو غيابك،
أو يدقق في ضبابك إن نظرت
إلى فتاة وانكسرت أمامها..
كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي
في هذا الزحام بلا رقيب منك أو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، اخلع
قميصك أو حذاءك إن أردت، فأنت
منسي وحر في خيالك، ليس لاسمك
أو لوجهك ههنا عمل ضروريٌ. تكون
كما تكون.. فلا صديق ولا عدو
يراقب هنا ذكرياتك".. الخ.
القصيدة التي انكشفت من سطرها الأول: "كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي"، لكنها استمرت في التنويع على هذا المعنى بتراكم صور وحالات شعرية لا تفيد الرسالة كثيراً.
في المقابل تتخلى "قصيدة النثر" كلياً عن هذا التداعي الحر، ففي قصيدة بعنوان "تشخيص" ـ وأنا هنا أوردها كاملةً ـ من ديوانه الأول "ضد رغبتي" يقول الشاعر المصري أحمد المريخي:
".. وعندما فتحتُ قميصَ حبيبتي
لم تكن هناك مفاتنٌ
كان الجيلُ الذي يعيش هزيمةً حقيقيةً
يواجه الجيلَ الذي يندد بانتصاراته
فلا/ تلوموا حبيبتي
عندما أفتحُ قميصَهَا،
وتفتحُ قميصي،
ونحققُ معاركَ صغيرةً
لا تشبه الانتصار الزائف".
وفي قصيدة بعنوان "ثأر" ـ أوردها كاملة أيضاً ـ للشاعرة فاطمة ناعوت، من ديوانها "اسمي ليس صعباً"، تقول:
"القطة
لا تندهش
حين تبصر السيدة
تصفع وجه الطفلة الجميل
لمَّا كسرت الكوب
القطط لا تقدر أن تندهش
لكن
تقدر أن تتسلل في الليل
لتخمش تلك اليد".
ثانياً: أن "قصيدة النثر" استبدلت مجاز الصورة الشعرية بمجاز القطعة أو مجاز القصيدة. ففي الأمثلة السابقة سنجد أن أحمد شوقي ومحمود درويش، وكذلك محمد عفيفي مطر وأدونيس وحلمي سالم، يهتمون بالصورة الشعرية التي تأتي في سطر واحد أو عدة أسطر، وأحياناً في بعض سطر، باعتبار أن هذه الصورة هي عماد الشكل الشعري الذي يخلصون ـ جميعهم ـ له، سواء في الشكل العمودي أو التفعيلي: الموزون أو المكسور. بينما في قصيدتيْ أحمد المريخي وفاطمة ناعوت تجد لغة وظيفية منطقية تخلو تماماً من البلاغة القديمة، إذ يعتمد الشكل الذي يكتبانه على المفارقة التي يصنعها النص مع الموجودات حوله: الذات والآخر والكون بمفرداته والذاكرة والتاريخ.. الخ، ففي قصيدة أحمد المريخي ثمة يأسٌ من السجال السياسي المطروح على الساحة العربية ومن أطرافه على السواء، يجعل المواطن العربي يبحث عن انتصاراته تحت قميص حبيبته.. وفي قصيدة فاطمة ناعوت ثمة موازاة بين ضعف القطط مقابل الإنسان، وضعف العربي مقابل الأجنبي، فكما لا تملك القطة غير أن تباغت السيدة وهي نائمة لتخمش يدها، لا يملك العربي الأعزل إلا أن يباغت محتليه ويقذفهم بالطوب.. كما أن اللافت للنظر في القصيدتين اللتين أوردتهما ـ بالصدفة كذلك ـ أنهما تهتمان بالقضايا الكبرى، عكس اعتقاد الخطاب النقدي ـ التقليدي ـ الذي يتهم النماذج النثرية بأنها مغرقة في الذاتية لا تهتم إلا برصد المواقف الذاتية الصغيرة، وهو دليل جديد على أن النقد التقليدي لا يستطيع ـ مهما حاول الحياد ـ أن يرصد جماليات "قصيدة النثر".
ثالثاً: تقوم "قصيدة النثر" في أغلب نماذجها على ما يمكن أن نسميه "بناء المفارقة"، حيث يبدأ النص بجملة ما، ثم يبني عليها بناءه المنطقي فيظن القارئ أنه يأخذه إلى نهاية متوقعة، لكن النص يباغته وينتقل ـ فجأة ـ إلى جهة معاكسة ليحقق الدهشة الشعرية.
قصيدة "تشخصيص" لأحمد المريخي تبدأ بجملة ".. وعندما فتحت قميص حبيبتي"، النقطتان المتجاورتان، وواو العطف، يقولان ـ دون تزيُّدٍ ـ أن ثمة أحداث جرت قبل الكتابة يمكن استنتاجها، وهو شكل من أشكال توريط القارئ في كتابة الجزء الناقص من النص، ثم يكمل النص بناءه المنطقي: لم تكن هناك مفاتن، إنما كان هناك كذا وكذا.. فـ(السببية) لا تلوموا حبيبتي، ثم يعود النص إلى جملته الافتتاحية: عندما أفتح قميصها.. لكي ينطلق منه إلى اتجاه معاكس يحقق به المفارقة الشعرية: "نحقق معارك صغيرة/ لا تشبه الانتصار الزائف"، تلك المفارقة التي تحقق كمال الرسالة: هذا الجيل يحقق انتصاراته في الجنس لأنه يئس من الانتصار في المعارك الوطنية.
قصيدة "ثأر" لفاطمة ناعوت تحقق أيضاً هذه المفارقة، حيث يجد القارئ نفسه أمام بناء منطقي يبدأ من جملة ارتكاز: القطة لا تندهش، ثم تبدأ في البناء عليها.. متى؟: حين تبصر السيدة تصفع وجه الطفلة الجميل. لماذا: لما كسرت الكوب. ثم يعود النص إلى الجملة الأولى مرة أخرى: القطط لا تقدر أن تندهش.. في سبيله إلى إحداث المفارقة: لكن تقدر أن تتسلل في الليل لتخمش تلك اليد.
هناك بالطبع سمات أخرى كثيرة يمكن التوقف أمامها عندما نريد رصد جماليات "قصيدة النثر"، مثل خاصية السرد، ذلك أن هذه القصيدة استفادت كثيراً من تقنية السرد القصصي، ومن الحبكة القصصية، ومثل تشكيل الفراغ، حيث تهتم بالعلاقة بين الأبيض والأسود في فراع الصفحة، وهو إحدى خصائص الفن التشكيلي.. وغيرها.. وغيرها، هذه السمات جميعاً، مفردة ومجتمعة، هي التي تصنع إيقاع "قصيدة النثر" الذي يشبه الإيقاع السينمائي، لذلك فمن العبث ـ في رأيي ـ أن نبحث عن إيقاعها استناداً إلى الأشكال الإيقاعية في القصيدة التقليدية، فنجري وراء الحروف المتشابهة أو الكلمات المتكررة أو ـ حتى ـ تتابع السواكن والمتحركات، فهذا النوع لا يحتاج إلى هذه الأشكال القديمة.
هذا اجتهادي الذي لا أدعي أنه الصواب، فكل ما ورد فيه قابل للمناقشة والنقد.. بل والنقض، ولا أدعي أنه نهائي، فالقصيدة التي أتحدث عنها مازالت في طور التشكل، وهي تفاجئنا كل يوم بنص جديد، وشاعرٍ جديدٍ يمكن أن يقلبا رؤانا جميعاً، لكنه مجرد اجتهاد لتخليص "قصيدة النثر" من الأوهام والضلالات المحيطة بها، ومن أولئك المحسوبين عليها وما هم منها.