المرجعية – دراسة في المفهوم القرآني
إن القيادة القادرة على أن تنظم أمور الأمة هي التي ترجع إلى مشروعها التاريخي الذي حظي بإجماع أجيالها كافة ,وشكل لها
ثقافة التقت عليها الأخلاف والأسلاف .
اشتهر مصطلح المرجعية في الوسط الشرعي , وربما في الوسط
الإعلامي , فإنه لا وجود له في المصطلحات القرآنية , ولكنها
حاضرة في المعاني .
في التصور الإسلامي " المرجعية " لا تمثل مجرد عائدية للنخبة
الشرعية , إنما هي ضابط للجسم الديني وتداخلاته في المجتمع
المسلم , بكل أبعاده ,وتقديم الحلول لمشكلاته , وتضمن بقاء الرؤية الإسلامية سليمة في امتداداتها عامة ( العَقَدية, التشريعية,
الأخلاقية ) .
** المرجعية ( لغةً)
مصدر صناعي من " المرجع " على وَزْن " مَفْعِلْ" بكسر العين
ويطلق المرجع في اللغة بوصفه مصدراً على المعاني التالية :
( الرجوع والإياب ) و ( المصير ) .
والفرق بين المعنيين , الأول أعم من الثاني , إذ الرجوع مطلقاً لا
يستلزم جزاءً , أما المصير فإنه رجوع من أجل الجزاء .
** المرجعية ( اصطلاحاً )
لم يرد هذا اللفظ في الكتاب والسنة , لأنه مصدر صناعي استحدث
بعد زمن النص الشرعي , من الكتاب والسنة وورد في كتب التراث الإسلامي ,
** المرجع في القرآن الكريم :
وردت كلمة المرجع في القرآن الكريم , مضافة بلفظ " مرجعكم "
ولفظ " مرجعهم " , أما الأول فقد ورد في كتاب الله في ( 11)
موضعاً [ آل عمران 35- المائدة48-المائدة105-الأنعام60-
الأنعام164- يونس4 – يونس23- هود 4- العنكبوت 8- لقمان15 – الزمر 7 ] .
** رؤية المفسرين لاشتقاق لفظ " المرجع "
أ- يأتي المرجع ويراد به مصدر " الرجوع " أو اسم المكان , وفي ذلك يقول : النسفي ( المرجع , الرجوع , أو مكان الرجوع )
ب- لا يأتي لفظ " المرجع " إلا للدلالة على المصدر , وفي ذلك
يقول الآلوسي : وهو مصدر ميمي لإسم مكان خلافاً لمن وَهُمَ فيه
وهو الراجح .لأنه لم ينقل أن المقصود ب( مرجعكم , مرجعهم)
اسم المكان , بل ثمة إجماع لا خلاف فيه أنه مصدر , وهنا المصطلح القرآني تختلف معانيه بإختلاف مواضعه , وللمفسرين
وجهتين هما :
الوجهة الأولى : اللفظ الذي جاء في المواضع (11) من القرآن
كلها بمعنى واحد , وفسروهما
- الرجوع إلى الله يوم القيامة.
- المصير يوم القيامة .
والفرق بين المصير والرجوع بوصفه مصطلحاً قرآنياً يتضمن
بذات اللفظ الإشارة إلى الجزاء والحساب , خلافاً للرجوع الذي
لا يتضمن جزاءً ولا حساباً .
الوجهة الثانية : التي هي محل البحث , اللفظ يختلف بإختلاف
موضعه , وقد نقل عن هؤلاء جملة من المعاني يروْن أن النص
القرآني قد جاء بها وهي :
أ- مطلق الرجوع إلى الله تعالى .
ب- الرجوع إلى الله يوم القيامة .
ت- الرجوع إلى جزاء الله تعالى .
ث- المصير يوم القيامة .
ج- البعث والنشور .
* المرجع في الحديث النبوي الشريف :
لم أقف على حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وردت فيه كلمة ( المرجع ) من لفظه صلى الله عليه وسلم
إلا أنها جاءت في بعض الأحاديث من لفظ غيره .
* المرجع في التراث الإسلامي .
كثُر ورود لفظ المرجع في كتب التراث الإسلامي , وبالإستقراء الواسع تبين أنها تدور على المعاني الآتية
- أ- الجهة الفكرية التي يحنكم إليها الناس في دينهم أو بعبارة أخرى المصارد النظرية التي يحتكم الناس إليها
في شؤون دينهم , فالمرجع في بيان كتاب الله تعالى هو السنة النبوية الصحيحية .
والمرجع في الأحكام إنما هو النبي صلى الله عليه وسلم .
-ب- الجهة الفكرية التي يحتكم إليها الناس في علم من العلوم , أو مجال من مجالات المعرفة , وهذا أعم من المعنى
السابق , الذي يتعلق بمرجع الناس في علوم الدين وأحكامه
خاصة . وهنا فالمراد بالجهة الفكرية التي يردُّ الناس أمورهم إليها في قضاياهم الدينية أو الفكرية , وينصبونها
عليهم حَكَماً وفَصْلاً , والأشخاص هم الذين يمثلون هذه الجهة الفكرية بمستواهم العلمي وبالمصداقية السلوكية
لما يقتضيه هذا العلم الذي يحملونه .
* المرجعية عند المتأخرين :
لفظ المرجعية لم نجد له ذِكراً في الكتاب والسنة , ولا في كتب التراث الإسلامي , وقد شاع استعمال مصطلح المرجعية في كتب المعاصرين شيوعاً واسعاً, والإمامية
هم أكثر من استعمل هذا اللفظ " المرجعية " إلا أن تحديد
منشأ هذا المصطلح ومصدره الأول على وجه الدقة ما يزال
مجهولاً . ويقصد المتأخرون بهذا المصطلح , الأشخاص الذين يمثلون الجهة العلمية التي يحتكم إليها الناس في شؤون دينهم عامة , والذين يتمتعون بمصداقية عالية تؤهلهم لما هم فيه .
وقد وُجِدَ لدى الإمامية اتجاه ضرورة ألا يُحصر هذا المصطلح في مراجع الفتوى وما يتعلق بها , بل أن تطلق
المرجعية على المراجع في الدين عموماً . على النحو الذي
يقول به المتأخرون من أهل السنة .
* أما مصطلح المرجع الأعلى فهو مصطلح مُحدَث من جماعة من أهل النجف , فيقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتاب ( المرجعية والتقليد عند الشيعة , للشيخ محمد مهدي شمس الدين , بحث ضمن كتاب آراء في المرجعية الشيعية لمجموعة من الباحثين , ص577 )
"في النجف اخترعنا مصطلح المرجع الأعلى , وقبل مرحلة
الستينيات لا يوجد في أدبيات الفكر الإسلامي الشيعي هذا المصطلح على الإطلاق , هذا المصطلح نحن أوجدناه " السيد محمد باقر الحكيم . السيد محمد مهدي الحكيم . السيد
محمد بحر العلوم . والداعي أنا محمد مهدي شمس الدين"
- وسبب ابتداع هذا المصطلح أنهم أرادوا أن يوجهوا خطاباً
سياسياً للخارج , في مواجهة نظام عبد الكريم قاسم المؤيد
للشيوعية , ويأسف الشيخ لأنه أصبح رائجاً فيقول :
( وآسف إذا أصبح مصطلحاً رائجاً وهو لا أساس له على الإطلاق , استخدمناه كآلية وأفادنا كثيراً , ولكن نحن استخدمناه كآلية لانريده غِلاً ولا نريده عائقاً ) .
* وبذلك يكون المفهوم القرآني للمرجعية على أنها الجهة
الفكرية التي يَرُد الناس أمورهم إليها في شؤون دينهم و
ينصبونها عليهم حَكَماً وفيصلاً , والأشخاص الذين يمثلون
هذه الجهة بمستواهم العلمي , وبالمصداقية السلوكية لما
يقتضيه ما يحملونه من العلم .
فالمرجعية فكرة وأفراداً هي الجهة التي يقتدي بها الناس
ويتخذونها طريقاً دليلاً ومثالاً يحتذي به , ويقدمون قوله على كل قول وحكم .
وجاءت المرجعية بألفاظ من كلمات القرآن ( إمام , أئمة ,
هدى, أولو الأمر ) .
* صفات مرجعية الأفراد :
( الهداية بأمر الله , امتثال العبادة , البعد عن الظلم , الصبر, المرجعية موقف وسلوك ) .
* نموذج قرآني للمرجعية { نبي الله ابراهيم عليه السلام }
اتصف :
1- مفارقة قومه .
2- محاجَّة النمروذ .
3- قذفه بالمنجنيق في النار .
4- استجابته لأمر الله بذبح ولده .
5- تركه أولاده في وادٍ غير ذي زرع .
هذه أهم مواطن البلاء التي نجح فيها نبي الله ابراهيم
عليه السلام , وهي التي جعلت منه إماماً للناس .
* لكن في الواقع المعاصر , لم تنحصر فكرة المرجعية في مجال الفكر الديني, بل أطلقت كمصطلح لكل أشكال النشاط
البشري ( سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية وفكرية ) ويكون بذلك أصبحت فئات المستشارين والخبراء هم المرجعية .
انتهى بحث المرجعية ( بتصرف عن بحث للدكتور
عماد الدين رشيد – الأستاذ بجامعة دمشق )