عن مطبعة بورزازات صدر للزجال المغربي عبد العزيز المكي الناصري ديوان زجلي تحت عنوان:" كهف النسور "
في طبعته الأولى 2006 صمم غلافه الفنان أبو علي شرجان رحمه الله
و سنحاول في هذه الأسطر الوقوف عند شعرية الكتابة بالعامية، و مدى قدرتها على النفاذ إلى العمق،
و على تأسيس هوية إبداعية قمينة باكتساب سمة الخصوصية و معالم الأدبية.



شعرية الغلاف

يشتعل العنوان نورا و نارا ليستوقف المارين عبر هذه الأرض دونما مبالاة، يستوقفهم للمشاهدة و الشهادة و التذكر . . . و رؤية هذا التذمر و البكاء.
إن ديوان " كهف النسور" هذه الجملة الاسمية الناقصة تختزل أبعادا رؤيوية خاصة، فبين" الكهف"- هذا المكان الآهل بالظلمة و الامتداد، و بغير قليل من التطهر بحروف الكتاب المنزّل(1)- و بين "النسور" تنشأ علاقة تنافر كبرى، إذ من المفترض أن تكون للنسور أوكارا، أما الكهوف فهي إما للمبعدين أو المضطهدين أو المعذبين و المعطوبين . و حينما يؤلف الزجال عبد العزيز المكي الناصـــــــري بين طرفي هذه الثنائية، و يجسِّر الهوة بينهما، فانه يدعو بطريقته إلى الانتباه كثيرا إلى كلمة "النسور" و محاولة الغوص في كل احتمالاتها الدلالية، و لو على سبيل التأويل، اد المرجح أن "النسور" كناية عن ذوات أو مواضيع أو أشخاص ذوي وضع خاص.
و علاوة على صدمة العنوان فان اللوحة التشكيلية المهداة من طرف الفنان التشكيلي" أبو علي شرجان" ، على جماليتها و بعدها الفني المتميز، تبقى صادمة من حيت الدلالة، و ابرز ما يظهر على هذه اللوحة ( رجل تقليدي اللباس يطأ الأرض بثبات و يقين في اتجاه الظلمة و المجهول، أو لنقل في اتجاه "الكهف"، لكن المثير هو هذا الصدود العنيف، و هذا الرحيل المر لرجال بحجم الشهامة و رباطة الجأش )، فهل صدفة أن يتفق هذا الرجل/ النسر مع حنظلة ناجي العلي في التوجه و المسار، أم أن الرحيل الإرادي قدر فئة من النسور من امة الضاد ؟ و بالتالي هل صدفة أن فئة "النسور" الشرفاء تشترك في رؤية واحدة للعالم"Une vision du monde "(2) و إذا صدق هذا الطرح و انسحبت النسور، فمن سيحمي هذه القلاع العتيدة ؟ أكيد أنها ستموت، لان البيوت تموت إذا غاب أصحابها(3).
بلاغة العناوين
تتوزع" كهف النسور" ثمان عشرة قصيدة جاءت بعض عناوينها كالتالي: ( الحكمة- الدنيا- الحال- كهف النسور- سد عينيك تشوف الزين- الحق . . . ) و قبل الخوض في الأبعاد الدلالية لهذا المتن لا بد من إبداء بعض الملاحظات التي نراها مهمة، و قد لا تستقيم الدراسة دون الوقوف عندها:
1/- تراوح العناوين بين كلمة واحدة ( الحكمة- الدنيا- الحال- الوقت- خيرة- التوام- السكانير ) و بين أكثر من كلمتين ( سد عينيك تشوف الزين- طعارج مغلفة بالقلع- أزمة أخلاق و لا أزمة أفكار )، و أول شئ يستفاد من هذه الملاحظة هو أن نفس الزجال عبد العزيز المكي الناصــــــري قابل للتقلص و الامتداد، و ذلك تبعا للحالة الرؤيوية و لطبيعة الموضوع، و في أحيان كثيرة خضوعا لسلطة "لحظة الكتابة".
2/- توزع هذه العناوين بين ثلاثة مجالات (المجال الحكمي: قصيدة الحكمة، الدنيا، الحال، الوقت، الحق)- (المجال البشري، من خلال استدعاء أسماء بعض الشخصيات: خيرة- محمد الدرة- عيون ليلى
- عبد السلام )– (المجال الواقعي: كهف النسور-الدم المهدور- أزمة أخلاق و لا أزمة أفكار-طعارج مغلفة بالقلع...) و نفصل التأكيد هنا على أن هذه المجالات الثلاثة يوحدها الهم الانسانوي le souci « humanise » مما يفسر انخراط الشاعر عبد العزيز المكي الناصــــري في هذا المد الذي يحمل شعار "وجع الإنسان"

قضايا الديوان
ليست صدفة أن تكون عناوين الديوان مؤطرة بين قصيدتي"الحكمة" و "الحق"*، ما دامت الملاحظات الواردة آنفا (تورط) المكي الناصري في شعر الإنسان و الوعظ و الحكمة.
إن الشاعر يريد أن يقول بان منطلق "الحق" هو "الحكمة"، إذ لا حق بدون حكمة، لكن هل الحكمة تؤدي بالضرورة إلى الحق؟
يقترح الشاعر مسلكا إبداعيا قوامه ست عشرة قصيدة للمرور من الحكمة إلى الحق .
و نستطيع أن نحصر أهم قضايا الديوان في ما يلي:
٭ قضية الواقع و تناقضاته : منذ أربعينيات القرن المنصرم، رأت المدرسة الواقعية في النقد الأدبي أن "ممارسة الأدب هي ممارسة ثورية، إنها عمل انقلابي يهدف إلى تثوير الجماهير الشعبية لتعي ذاتها و تعرف دورها . . . الأدب الاشتراكي . . . يضع نفسه في خدمة الجماهير الكادحة التي يعتبرها مصدر الإنتاج المادي و الإلهام الفني أيضا"(4) و تحضر هذه الثوابت الثورية الصارخة في ديوان "كهف النسور" مما يطبعه بمسحة واقعية متميزة نقرأ:
"غابة هاذ الدنيا
هاذ الدنيا فانية
كذابة
دنيا
الفسق و الفساد
فيها هاز العلام
الأنفة
هايمة/مشردة/طلابة"(5)
إن الشاعر هنا رغم سخطه على "الدنيا" و رغم ثورته المعلنة عليها، إلا أن نفس المقطع يوحي بأنه تكلم بصفة عامة، و لم يدقق في موطن الداء أكثر بشكل عميق، و لعل لهذا ما يبرره، خاصة إذا كان الأستاذ المكي الناصـــري مؤمنا بالقول السائر "الحب بالغمزة"
ولو اطلعنا على قصيدة "السكانير" لزكينا هذه الصرخة الشمولية، ففي "السكانير" يعرِّج المكي الناصري على مجموعة من القطاعات الحيوية، يدقق النظر، يتمعن، يفحص و يسائل الوضع شعرا:
٭ التعليم: "نكلمك على الكم/ و الكيف ف التعليم/ ما يعجبك حال/ و عداد الأمية/ و عداد المعطلين . . ."(6)
٭ السياسة: " و لا السياسة/ اللي غيبت المكتبة و الكتاب/ من ﺍﻟﯖﺮﻥ/ شادة الخرافة/ و مخليا الثقافة"(7)
٭ الصحة و الصناعة: "ولا نكلمك على الإفلاس/ ف الصحة و الصناعة/ ولا العجز ألغدائي/ و حتى المجاعة/ لانعدام الرؤية/ ف مجال الزراعة"(8)
و هكذا توالى رصد الشاعر لواقع هذا الوطن ، فتحدث عن السكن و أزمة العدل و البيئة.
و لكن رغم طول نفس "السكانير" التي كتبت في ماي 2003 ، إلا أن النظرة الشمولية التي تطبع قصيدة "الدنيا" تبدو أكثر شاعرية، و تفيد أن مسيرة الشاعر تأخذ منحى تصاعديا إذا علمنا أن قصيدة "الدنيا" كتبت في يونيو 2004.
٭ القضية الإنسانية: قد يقول قائل:"إن للإنسانية قضايا عديدة، و بالتالي وجب أن نورد"القضايا الإنسانية" عوض "القضية الإنسانية" لكننا نرى أن للإنسان قضية واحدة، و هي قضية كبرى تتعلق بما يحقق للبشر صفة "الإنسانية"، و يحاول الشاعر عبد العزيز المكي الناصـــــــــــري في "كهف النسور" الوقوف عند بعض النماذج الممثلة للقضية الإنسانية، و لعل هذا الوازع ( الإنساني ) متحكم في عملية العنونة المخصص لبعض القصائد، حين يضع الشاعر
( خيرة/ محمد الدرة/ عبد السلام/ ليتيم) عناوين لبعض قصائده، فانه يؤشر على تكبده الهم الإنساني المقسم بين اغتصاب الأرض(محمد/ بطلقة بارود/ قاطع السرّة/ وزرع الخوف/ ف القلوب / غبرة و ضبابة)(9) وبين غدر الصحبة
(الله يا رب يا مولاي/ سرب الرفقة / علاش كنت عوّال/ طار و خلاني/ الجنح مكسور/ و الساق مبتور...)(10) وبين لهفة الماء/ البحر و جبروته (الله يا وليدي/ غصبوا شبابك/ خليتي أحبابك/ خليتي الرفقة و الصحاب/ البحر/ طبعه الغدر/ وصيتك بالصبر/ الموجة/ ما تدير أحباب)(11)
و في مقابل هذا الجرح الموجع للإنسانية في الديوان، تحضر قيم إنسانية خليقة بالانتباه. فالشاعر يحدثنا عن "الحق" (الحق/ وسط شمعة/ تكون فتيلة/ و تشعل مع راسك/ للفوق تهز راس غيرك/ مفهومة هذا هو الحق! )(12)، ويجيد تتبع تفاصيل الغزل العفيف، فيوشّي الديوان بحناء الحب و بعطر الكلام الأثير( حب الملوك خدودك/ الشعر ضفيرات/على الصدر مدلي/ من فاس/ الشربيل منقوش بالسقلي/ من النقرة خلخال تفراوت/ ع الكعب مدلي...)(13) و إذا كانت اللغة هي القناة التي حاول الشاعر من خلالها تسير الهوة بين القضايا التي تؤرقه و بين الشعر، فان قضية اللغة/ الكلام تستحق الوقوف و التأمل.
٭ قضية اللغة: الشعر هو اللغة بمعنى من المعاني(14): ينطلق الأستاذ عبد العزيز المكي الناصري من هذا الوضع الاعتباري للغة التي ترقى في بنود النقاد إلى مرتبة الشعر، و كديدن جميع الشعراء في احتفائهم باللغة وحبورهم بها، فان الزجال عبد العزيز المكي الناصري كان حريصا على إثارة انتباه القراء إلى ما أصبح يعشش في مواجدنا من لغة مهترئة تفوح نتانة و زيفا و رياء. لقد جاءت قصائد " كهف النسور " في مجملها فاضحة لعهر العبارة و عري الكلام من الحكمة و الصدق، فلا غرو إذا قرانا في الديوان ما يحفزنا على توخي الصدق و الحكمة في الشعر. و إذ نقول "الصدق" لا نتوخى الوقائع الحقيقية أو مجريات الأمور على الأرض، إنما نتوخى الصدق العميق، الصدق الداخلي، صدقنا معنا، ثم مع الآخر، لان الصدق هو الكفيل بتغيير أنفسنا و بالتالي تغيير ما حل بنا " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(15)
الصدق و الحكمة طريقان ملكيان نحو وعي الذات و حو الممكن:
"الصدق للكلام جناوح
و الحكمة لوجه الكلام وسامة"(16)
وبعد، فهذا "كهف" لا كالكهوف، يعمل على تنشيط اللحمة بين الألم و الأمل، و بين الجرح و البلسم إذ " بالتحسر المبتسم، الذي يعيشه الشاعر، يبدو أننا نحقق التآلف الغريب بين الحسرة و السلوى. إن قصيدة جميلة تدفعنا للصفح عن حزن قديم جدا"(17)
​ ​ ​ فاس في فبراير 2008
الهوامش

1- الإشارة إلى سورة الكهف – قرآن كريم
2- مفهوم "الرؤية للعالم" أساسي في النظرية البنيوية التكوينية عند لوسيان ﯕﻮﻟﺪﻣﺎﻥ انظر « marxisme et sciences humaines » idées ; N.F.R ; Gallimard ; paris 1970 ; P :43
3- الإشارة إلى ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا؟" يقول محمود درويش: "إلى أين تأخذني يا أبي؟/ إلى جهة الريف يا ولدي/ لماذا تركت الحصان وحيدا؟/ ليؤنس البيت يا ولدي / لان البيوت/ تموت ذا غاب أصحابها."
٭ عنوان القصيدتين الأولى و الأخيرة من ديوان "كهف النسور" للأستاذ عبد العزيز المكي الناصـــــري.
4- " المدرسة الواقعية في النقد العربي الحديث " حنا عود ، منشورات وزارة الثقافة و الارشاد القومي، دمشق 1978.
5- ديوان " كهف النسور " ص 10
6- نفســـــــــــــــــــــــه ص66
7- نفســـــــــــــــــــــــه ص67
8- نفســـــــــــــــــــــــه ص68
9- نفســـــــــــــــــــــــه ص32-33
10- نفســـــــــــــــــــــــه ص29
11- نفســـــــــــــــــــــــه ص55
12- نفســـــــــــــــــــــــه ص84
13- نفســـــــــــــــــــــــه ص50
14- " القصيدة الرؤيا " " دراسة في التنظير الشعري"، منشورات اتحاد كتاب المغرب،ط1، الرباط 2003، ص101
15- سورة الرعد الآية 11 – قرآن كريم
16- ديوان" كهف النسور" ص6
المفضل الياموني.

شكرالك أخي الاستاذ المفضل الياموني على هذا الخبر المفرح وهنيئالنا ديوان كهف النسور
وتحيتي أخي وأستاذي الزجال عبدالعزيز المكي الناصري مزيدا من التألق والعطاء