كان رابح رجلا متفهما وعاقلا ، كان الجميع يعرف ذلك ، ولهذا السبب ، وجد نفسه يقدر الوضع الجديد حق قدره، ولعل هذا الأمر ما جعله في وضع غير محسود عليه إذ بات مطالبا بأن يحل المعضلة، ثمة معضلة، هذا ما قاله لنفسه حين تطلع إليه جاره المحامي وقد جحظت عيناه وهو يصرخ بأعلى صوته :
- رابح …لقد وعدتني بحل مشكلتي ، لم يبق على حلول المناسبة سوى أيام قليلة جدا، عليك أن تفي بوعدك وإلا فالويل لك …
عاد إلى البهو حين تلاشت أصداء وقع أقدام جاره على أدرج العمارة ثم استرخى على الأريكة كأنه تخلص من كابوس ثقيل، لم يكد يغفو حتى طرق الباب مرة أخرى …
- بالله عليك ، أخبرني أين سأضع هذه المصيبة ؟ لقد ورطتني يا رجل …
- لا تقلق ياجاري العزيز، سأجد حلا لهذه المشكلة، لن أخفر ذمتي أبدا …
- سنرى يا رابح، سنرى …
عاد رابح للجلوس على الأريكة وانهمك في مشاهدة نشرة الأخبار، مطرقا في تفكير عميق.
………………………………………………………
سمع طرقا خفيفا على الباب، هرع إلى حجرة النوم وأغلق الباب بالمفتاح ، كان قد طلب من صغيره أن ينفذ وصيته له بالحرف الواحد ، وما أن فتح الباب حتى صاحت الجارة غاضبة :
- رابح، أين أنت يا رابح ؟
رد الطفل :
- قال لك أبي إنه غير موجود .
- أخرج يا رابح ،أعلم أنك هنا …
غادر حجرة النوم على مضض وابتسامة ما تعلو محياه …
الحق أن الطفل …-
- لا تقل شيئا، أريد حلا … إن منزلي لا يتسع لهذا الوافد الجديد …
- لا تقلقي يا جارتي العزيزة، سأحل المشكلة…
نظرت إليه نظرة تحذير :
- الليلة قبل غد…
فهز رأسه والابتسامة المشبوبة بالعرق لا تفارقه …
- الليلة قبل غد…
…………………………………………………………………
قال المندوب لمدير دار الشباب :
- ما هذا الروث ؟
طفق المدير ينظر إلى المندوب بعينين حائرتين، أخفى ارتباكه بإيماءة لا معنى لها، حك رأسه بأطراف أصابعه وأجاب :
- آه سيدي، لعله العون رابح وضع روثا أسفل هذه الشجرة، أذكر أني أمرته
بذلك.
بدا الرجل مقتنعا تماما ، بيد أنه لاحظ أن الروث لا يزال طازجا ولم تلحقه يبوسة بعد، وأسر بالأمر لصاحبه ثم حرك أرنبة أنفه متسائلا :
- ما هذه الرائحة ؟ أتكون رائحة بول ؟
- لعل سيادتكم ما زلتم تتمتعون بحاسة شم قوية على الرغم من المسؤوليات الجمة الملقاة على عاتقكم .
……………………………………………………………………
جاء السيد المدير على الساعة السابعة إلا ربع بالتحديد متخبطا في الظلام ، لم يجد شيئا باستثناء مزيد من روث الغنم منتشرا حول الشجرة اليتيمة، كان روثا طريا كالعادة، لطمته رائحة البول، لم يكن بول آدمي على أي حال ، انهمر ضوء الصباح من الفناء ولف الشجرة كما بدت السماء زرقاء في غير تكلف، حاول أن يخمن مصدر الروث لكنه لم يوفق، التفع في معطفه وأحس بصداع شديد في رأسه، وخرج إلى نور الشمس … الزاحف شيئا فشيئا .
………………………………………………………………………………….
جاء مدير الدارباكرا، هذه المرة على الساعة الخامسة صباحا، متدثرا بمعطف ثقيل، فرك عينيه، لم يجد أحدا في قاعة العروض ولا في المرحاض، أو في المكتبة، عرج على القاعة الصغيرة، لم يصدق ما رأت عيناه، ولج مكتبه وجلس حيث تعود الجلوس، طفق يرنو إلى نور شمعة أحضرها معه لتكفيه فضيحة الكهرباء…غاص بصره في نور الشمعة المتمايل درءا لصداع رأس أصابه جراء أسئلة محيرة لم تبرح ذهنه منذ يومين ، وحدها أنفاسه تصاعدت في المكان ، غادر المكتب وقد ارتأى أن يطل على الفناء ، كان لا يزال دائخا، سمع مفاتيح تدخل جعبة القفل، توارى خلف الحائط واتكأ على المجلة الحائطية لجمعية السنابل ، كانت الخراف منشغلة باجترار ما بلعته في النهار غير مكترثة بأي شيء وقد تناهى إليه صوت أسنانها تطحن الشعير والفول والبرسيم ، تقدم منه كبير الأكباش دون أن يحس به ونطحه في ركبته ثم صاح مزهوا :
- باع.
………………………………………………………………….
على الساعة السادسة والربع ، والوقت داج ، تسلل رابح إلى الداخل، رأى نور المصباح اليدوي يجلي عن أرض مغبرة، جمع أكباشه الخمسة ولما هم بالانصراف، شعر بيد تربت كتفه، وقف جامدا حيث اصطكت أسنانه واصطكت أسنانه ثم بللت قطرات من البول سرواله، قطرات قليلة فقط، لم يحرك رأسه يمينا ولا شمالا، قال الخروف الأول: باع، ورد الثاني: باع، وتبعه الثالث قائلا: باع، وردد الرابع البعبعة بصوته الجهوري، بينما التزم الكبش الأقرن، كبير الأكباش صمتا مريبا…
- آش كادير هنا؟
استدار رابح ببطء وهو يقول:
- خلعتيني نعام آسي.
- ماذا أرى أمامي؟
- عيدك مبارك مسعود نعام آسي، هذه ليست سوى أكباش الجيران جئت بها إلى هنا …حيت قرب عيد الأضحى نعام آسي .
حرك المدير رأسه وقد جحظت عيناه وانتفخت أوداجه، ودار حول نفسه دورة كاملة، بينما ثغا الكبش الأقرن، كبش السيد المحامي بثغائه الشجي :
باع .
خرج المدير من الدار وهو لا يلوي على شيء، صاح فيه رابح :
- آسي المدير ، عارفاك نعام آسي راني قفرتها …عارفاك إلى ما سمحلي.
صاح المدير بأعلى صوته :
- باع .
صخر المهيف
أصيلة : يناير 2006