المصدر: السيد طنطاوي
هناك كثير من الأسئلة ترد على ذهن البعض وتحتاج إلى إجابة واضحة، حتى يرتاح باله وترتاح نفسه للإجابة الصحيحة، ومن الأسئلة التي تراودنا جميعا سؤال مهم وهو: هل هناك سن معينة يجب على الإنسان أن يرتاح فيها ويجنب نفسه عناء العمل، ويقوم بالترفيه عن نفسه بالرحلات والجولات السياحية أو الجلوس مع أسرته أو مع نفسه أمام القنوات الفضائية لمشاهدة الأفلام والمسلسلات وقراءة الجريدة الصباحية؟، أم أن سن التقاعد اختراع إنساني بحت جاء في وقت معين ولأسباب معينة ولا محل له من الإعراب؟.
للإجابة على هذا السؤال قرأت دراسة وافية للباحث عبد الدائم الكحيل وهو من الباحثين المحبين والمهتمين بدراسة الإعجاز في القرآن والسنة النبوية وله كثير من الدراسات في مجالات متعددة، فماذا يقول الباحث عن هذه المسألة ومن وحي القرآن والسنة ومن وحي العلوم الطبية والاجتماعية والإنسانية.
يقول الباحث: عندما بدأ الغرب ثورته العلمية أراد أن يضع تشريعاً يضمن سلامة ورفاهية الناس فحدّد سناً للتقاعد عن العمل (ستين سنة مثلاً)، ظناً منه أن هذا القانون يخدم البشرية ويضمن لها السعادة والوقاية من الأمراض الجسدية والنفسية. ولكن هل يتفق هذا التشريع مع الإسلام؟ طبعاً لا؟
أولاً: الإسلام ليس فيه سن تقاعد عن العمل! بل يبقى المسلم يعمل حتى آخر لحظة، فيقول تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» [الحجر: 99]، واليقين هو الموت، إذاً العبادة مستمرة حتى ولو كنتَ على فراش الموت.
والنبي صلى الله عليه وسلم بقي يعمل ويمارس جميع نشاطاته في الدعوة إلى الله وقتال المشركين ويعمل كقائد سياسي وعسكري ومرشد اجتماعي للأمة حتى لحق بالرفيق الأعلى، ولم يتوقف لحظة عن العمل، لأن الله تعالى أمرنا بالعمل فقال: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» [التوبة: 105]، إذاً فالعمل مستمر حتى لقاء الله عالم الغيب والشهادة.
ولكن الغرب خالف هذه السنَّة الإلهية، وقال بأنه ينبغي على الإنسان أن يستريح من العمل بعد سن محددة، وسبحان الله، رجعوا إلى تشريع القرآن واعترفوا بأن سن التقاعد خطأ، وأن هذا القانون سبب الخرف للكثيرين ممن تقاعدوا عن العمل بعد سن الستين، كما سبب لهم العزلة الاجتماعية والكآبة وبعض الأمراض الجسدية… وإليكم يا أحبتي الإثبات العلمي من أفواه علماء الغرب أنفسهم!
وتؤكد دراسة أميركية جديدة نشرتها «الدورية الدولية للصحة المهنية» أن الأشخاص الذين يعملون بعد سن التقاعد يتمتعون بصحَة أفضل مقارنة مع غيرهم من المتقاعدين. وتقول الدراسة التي صدرت عن الرابطة النفسية الأميركية إن الأفراد الذين يعملون بعد بلوغ سن التقاعد في مهن مؤقتة أو وظائف تتطلب العمل بدوام جزئي يعانون، بدرجة أقل، من المشكلات الصحية ويتمتعون بحيوية أكبر مقارنة مع المتقاعدين الآخرين. وعلى ذكر سن التقاعد كان لي صديق خبير تعليم كبار في هيئة اليونسكو، وفي جلسة جمعتني أنا وهو، تطرق الحوار إلى العمل طوال العمر فقال لي: إنني كنت أتمنى أن أعمل في المحاماة أو الصحافة ، فقلت له: لماذا يا أستاذ محمد؟ رد علي: الذين يعملون في المحاماة وفي الصحافة عملهم يدوم إلى نهاية عمرهم وهذه ميزة على عكس الموظف الذي ينتهي عمله بسن التقاعد.
أورد الباحث عبد الدائم الكحيل دراسة لفريق أميركي ضم مختصين من جامعة «ميريلاند» عن مشكلة التقاعد وما يسببه من أزمات تصيب المتقاعد، فأثبت أن مرحلة ما بعد الحياة المهنية تشكل ما يمكن تسميته بالجسر الوظيفي، حيث يعمل الفرد في هذه المرحلة في وظيفة بدوام جزئي أو وظيفة مؤقتة، أو لحسابه الخاص، وتقول الدراسة إن الأشخاص الذين عملوا بعد تقاعدهم ضمن مجال مهنهم السابقة أظهروا تحسناً في الحالة النفسية لديهم، فيما لم يرصد ذلك عند من عملوا خارج مجالهم الوظيفي، ما عزاه الباحثون إلى حاجة الأخيرين إلى التأقلم مع بيئة عمل جديدة وظروف وظيفية مختلفة.
ويؤكد الباحثون على أهمية اختيار «جسر وظيفي» مناسب للأشخاص الذين بلغوا سن التقاعد، ليساعدهم على انتقال أفضل إلى مرحلة التقاعد الكامل، وهم في حالة صحية نفسية وجسدية جيدة.
وفي دراسة بريطانية وجدت ارتباطاً بين تأخير التقاعد من العمل وتأخر ظهور أعراض مرض الزهايمر (خرف الشيخوخة)، وأن الاستمرار في العمل بعد سن التقاعد قد يساعد على تجنب المرض. فإبقاء الدماغ نشطاً في وقت لاحق من العمر، يبدو أنه يقلل من فرص الظهور المبكر لمرض الزهايمر، بحسب دراسة شارك فيها 382 رجلاً من الذين تحتمل إصابتهم بالمرض، حيث وجد الباحثون ارتباطاً ظاهراً بين التقاعد المتأخر وتأخر ظهور أعراض المرض.
وكانت هذه الدراسة جزءاً من مشروع بحثي أوسع نطاقاً شارك فيه 1320 شخصاً مصاباً بالزهايمر، وقادها فريق بحث من معهد الطب النفسي بكلية الملك بجامعة لندن، ونشرت حصيلتها مؤخراً بدورية «المجلة الدولية لطب الشيخوخة النفسي».
ولم يجد الباحثون ارتباطاً بين مستوى تعليم المشاركين أو نوعية الأعمال والمهن التي يمارسونها وبين مخاطر واحتمالات الإصابة بالزهايمر، لكنهم وجدوا أن الأشخاص الذين تأخروا في التقاعد قد حافظوا على قدراتهم العقلية فترة أطول قبل الإصابة بالمرض.
ويرى مستشار صندوق أبحاث مرض الزهايمر وأحد مؤلفي الدراسة الدكتور سَيْمون لَفْستون أن التنشيط الفكري الذي يُحَصّله المسنون في مكان العمل قد يحول دون تدهور القدرات العقلية، وبالتالي يبقي الناس بعيداً عن المرض لفترة أطول.
وعندما جاء عصر المخترعات العلمية وبدأ العلماء يكشفون أسرار الطب والكون بما لديهم من العلم، اقترحوا مجموعة من التعاليم، وكان من بينها ما يسمى بسن التقاعد وهو غالباً ما يكون 60 سنة، حيث يقولون: إنه على الإنسان أن يرتاح من العمل بعد هذا السن ويجلس للاستراحة. ولكن في الإسلام لا يوجد سن للتقاعد؛ ففي مجال العبادات فإن المؤمن مطلوب منه تأديه العبادة حتى نهاية حياته، يقول تعالى: « فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»، [الحجر: 98-99]، واليقين هو الموت.
والسؤال لماذا لم يحدد الإسلام سناً للتقاعد؟ ولماذا نجد الرجل في الإسلام لا يزال يعمل أو يتعلم طيلة حياته، وحتى آخر لحظة طالما لديه القدرة على ذلك؟ والإجابة أن تعاليم الإسلام هي التي دعت إلى ذلك، ويعني شيئاً واحداً وهو صدق تعاليم الإسلام واتفاقها لذا فإنه ينبغي إعادة النظر في القوانين الموضوعة لتتفق مع القوانين الإسلامية في أن الإنسان يعمل مادام يملك طاقة للعمل، ولا يجوز أن يوقَف عن العمل إلا لأسباب صحية أو اجتماعية أو أسباب قاهرة.
منقوول