على هامش الطفولة
حوار بين الذات والانا
استحضر فيه الزمن كطرف رئيس
أخاطبه يخاطبني أعاتبه ربما سيعاتبني
أقول له :
آه كم أنت قاس يا زمن ..
تعيش مع الناس تعطيهم المسرات والأفراح
والمضرات والاقراح..
ترافقهم أينما حلوا وارتحلوا، تعانقهم تعذبهم وتحبهم تبغضهم .. فيموتون وتحيى ..
أبدا لن تموت ..
فأنت الشيخ العجوز الذي عاشره الكل، تعرف الناس جميعهم،
فأنت النادل الذي يسقي الحب، السعادة، الكره والحزن، المودة، الصفاء والإخاء .
وأنت الطبيب الذي يدمي الجراح ويداويها فتغمرنا بذلك ، اللذة والانتشاء.
وأنت الخير والشر، أنت الحسن الجمال والقبح ،أنت أيها الزمان الذي تجرعنا بك مرارة الحزن كؤوسا .
كل لحظة من الحياة عشناها فيك ..
اختلط فيها الحاضر بالماضي والفرح بالحزن، والمقدس بالمدنس ..
وتناثرت فيها الأحداث لتزهر من الذكريات عبق السنين وراء الطفولة البريئة التي عشناها، فليس هناك ما هو حقيقي فينا سوى الطفولة، طبعا .
[...]
طفولة تحمل الحقيقة الوحيدة التي كن نعيشها وتعيشنا ، منها تفوح رائحة الصمغ والصلصال وحصير القش المتآكل وآي من الذكر الحكيم .
منها نسمع صوت هدير الزلزال والناس يرددون تلاوة اللطيف، نتقاضى رغيف خبز مقابل أن نكثر من اللطيف فنقبل بذلك ونحن نجهل أن الناس فجأة أدركوا بأنهم يعيشون في وجوهنا، تدق الأوتاد وتنصب الخيام في الخارج فنسكنها غير مهتمين لذلك ، نمارس طفولتنا اليومية بكل دقائقها وساعاتها .. فلو كن نعلم بأنها ستنقش في ذاكرة السنين، لتصنعانها وافقدنها معنى الطفولة التي حاولنا فيها الاختراع والابتكار، نجحنا في بعضها وفشلنا في البعض الأخر، المهم أننا حاولنا .
فإذا كانت الفلسفة هي بنت الدهشة ووليدة السؤال الذي يبحث عن المعرفة ،فليس هناك أدنى شك في أن أول فلاسفة العالم هم الأطفال، وأننا ــ ولن اخجل من قولها ــ تفلسفنا مذ كن صغارا؛ إن أكثر شيء يتقنه الطفل ، هو طرح التساؤل والبحث عن المعرفة في فضولية لا يكبح جماحها إلاّ الاكتشاف والمعاينة بدءا بإشكالات كيف ؟ ما ؟ لما ؟ متى ؟ أين ؟ من ؟ أي؟؟؟.
[...]
طفولتنا تحمل في طياتها اللعب واللهو والعربدة والمجون .. منها كن نخلق أجواء السلطة الديمقراطية وما أدراكم ما الديمقراطية؛
صغارا نمارس السياسة ونعبر عن مواقف باللغة التي نستطيعها ونتقنها ــ اللعب طبعا ــ ففي لعبة الهاربون والشرطة " بيرو جردام " ينقسم الأطفال إلى فريقين واحد يمتلك السلطة وينتشي باستعمالها، وأخر يتمرد عليها ويستمتع بذلك.
حتى وان كنا صغارا لا نفقه شيئا من أبجدية السياسة [...]
قد يتذكر الأصدقاء تلك اللحظات التي قضينها في لعب الكرة، في كل مكان؛ في الشارع في الزقاق في الملعب في المنزل في الوادي وفوق السطوح وفي المسجد حتى، لكن الله سيسامحنا لأنه يعلم بان لم نكن عابئين بذنوبنا البريئة .
طفولة تحترق فيها أجسامنا بلهيب شمس الظهيرة اللافح ،ونحن نختلس من الحقول ما تيسر من سنابل القمح، قبل أن نغطسها في مياه البرك الآسنة .. نعم نعود في المساء لنحكي عن يوم مليء بالمغامرات .. عراك، هرب، مطاردة، مقالب ساخرة وغيرها ...
طفولة ترتدي الأتربة
لترسم لنا تاريخا مثقلا اختلطت فيه السنين التي نحيى.
أعتصر الكلمات لعشقها وأبحث عنها في رزم التاريخ كما يفعل الصياد في الماء المتجمد..
[...]
عبق السنين .. نهش في الذاكرة
طبعا تأخذنا النشوة اللذة عندما نبدأ في نهش الذاكرة ،وتصفح أرشيفها، وقبلا نكون على استعداد لندخل كبسولة الزمن من الحاضر، نسافر وبدون تأشيرة عبور إلى الماضي، لنعانق البراءة.. نحب، نبغض، نكره، نغضب، .. كل شيء ولولا أن سنة الله في خلقه النمو والكبر لما فارقنا تلك الحياة .
حياة ملؤها الذكريات، أحاول عبثا أن استجمعها، لكن لا افلح، علا الزخم هو السبب ؛ في الدهن تتزاحم الذكريات وتختلط اللحظات كلها تريد نفض الغبار و الانعتاق من أسر الماضي .. تريد أن تكون في الحاضر لترى ما أصبحت عليه الأيام وتقول: آه ما أجمل الأيام التي ولدت فيها ..
[...]
المهم أن الكل يستحضر في دهنه هذه الأيام الجميلة التي مرة بنا في المدرسة وعلى الساعة الثامنة صباحا البرد قارص والماء في الأرض متجمد والأيادي الناعمة مختشية في الجيوب تدفئ لعصى المعلم والوجه يرتقب صفعة المدير ...
لا سامحك الله أيها المدير بأس رجال التعليم مثلك، أنت وزبانيتك من أوصل العلاقة التربوية الى الحضيض، الى هذا المستنقع الآسن..
الآن وقد فهمت لماذا عانى معظمنا إن لم نقل كلنا من معضلة التخلف الدراسي في بعض المواد إن لم يكن في كلها، وألان عرفت لماذا هاجر معظم التلاميذ حجرات المدرسة خوفا من
[...]
هكذا سيجمعنا قدر رحيم في درب معكم يا أحباب
هي اكبر من تسطر في التاريخ المكتوب معكم الضحك، البكاء، الفرح، والحزن، الماضي والحاضر ،الحنين والأنين، الأمل والألم، الفكر والمبدأ، الابتسامة الضحكات الخرساء الجميلة التي رسمتها شفاهنا ، الكلمة، المعنى والحروف، الدرب، الجد، الهزل، السهرات، الاماسي، الليل ...
عندما فكرت بجد في أن أدون سطورا من التاريخ، كنت احسب الأمر سهلا بما كان، لكنه لم يكن كذلك ؛ فالعودة إلى الماضي واستحضار الذكريات كان أثقل من إن تستوعبه السطور، فالدرب مظلم بالنور والذكريات فيه جامدة في قعر الماضي، لذلك لم أجد بدا من العودة إلى ''قنديل الغيوان'' (العربي باطما) ليحدثنا من خلف الثرى عن نفسه قليلا .. ليعطيني الأمل لأبدأ من جديد في استدراج الذكريات، كان هذا بندا أساسيا في ميثاق التفاوض مع الماضي .
هكذا سيجيب عندما سألته الأيام ، من تكون أيها الرجل ؟
قال :
" أنا من شرب كاس الحياة حتى الثمالة ..
وشرب كأس الحب والسعادة والحزن ..
عرفت نشوة الضحك والعربدة والمجون ..
سبرت أغوار الإبداع والفن والجمال وعشت العذاب ..
فكنت أخ الأمل
وابن السلام
وحفيد التسامح والإيثار والوفاء والحنان ..
أنا من صرح فوق المجد والشهرة، واطرب صوته آلاف القلوب الحزينة ..
أنا من داعبت يداه الشعر الحريري وكتبت قصائد الآهات المزمنة
أنا الذي لم يبقى لي حق في الأمل ..
هو ذا جسدي النحيف المتقد فوق الفراش القديم
يرى الماضي البعيد ..
، آه إن تلك الاماسي تأتيني الآن وأنا لم يبقى لي الحق في الأمل ... أنا الذي لم يبقى لي الحق الأمل ...
هي ذي بضع سطور من تاريخ الإنسان الذي كان الأمل نفسه .
ويحك أيتها الأيام كم أنت غدارة، تلوحين بالأمل ثم يغدوا الأمل الم ومعاناة.
الم يكن هذا هو القنديل الذي اتقد نوره واحترق فتيل قلبه لنحي وتحيينا ويحيا الجميع ؟
الم يكن هذا هو الدمع الذي انسكب على خديك، أيتها الأيام، فمسحتيه بالأنين ؟
الم يكن هذا هو الزمن الذي نسعد فيه بالحنين ؟
آه يا زمن وأنا الذي يفكر في تسطير الذكريات قبل أن تغمرها السنين
وتعود من طيات الماضي السجين ..
الى هنا ربما قد أتراجع عن هذا القرار الذي أنا الآن عازم عليه ،
قد أتراجع لأواسي الزمان في فقده للمحبة والخير والأمل والسعادة
لقد ارتدت الأيام عباءة الحروب والصراعات المدمرة فتبددت القيم وانحلت الأخلاق وبدا الكل في سباق مع الزمان مع العلم أن الأحمق أو الأبله، بلغة أهل العلم، هو من يسابق الزمان
ويجاره في إيقاعات وتقلباته المريرة، فهو الذي خلق ليسير معنا في الطريق ويحضننا من البرد ويحمي أعيننا من الهباب هو اليوم يلقي فيهما الرماد ،
أحمق من يجاري الزمان في إيقاعاته وتقلباته،
قد لا يستسيغ احذ الفكرة، لكن الحقيقة هي كذلك؛ هو اليوم يدفع الشخص الذي كان يعطي الناس الأمل الى الاعتراف بان لا أمل بقي له مع الزمان ..
غدار ايها الزمان ..
من ملحمة
" عبق السنين .. عبث ونهش في الذاكرة"