زاوية سيدي اسماعيل منبع الكلام
صباحك يا الزاوية يا منبع الكلام
صباح نور المعاني
الوارثاني، الشانقة هبالي
صباح منور ببهاك
كنت على موعد مع الزجال المبدع مصطفى الريمي، المصاب بلوثة الشعر، الحالم بالوصول إلى دالية الروح،
و الهارب بين المكان و ردهات الوقت الهارب .. كانت فرصة لتتمة البورتريه الخاص به.فرحت حينما أسعفتني العبارة لرسم وجه زجال من زماننا، رسمته بحروف تحتمي بنور معانيه.جلسنا بالمقهى الثقافي في مازغان كان بصحبته الزجال نصر الدين من مراكش ، كانت جلسة تحتفي باللغة و بالبوح.بحيث تنازلت و مصطفى عن الصمت الذي يسكن الذات منا ..هل الصمت لغة أخرى؟أم تراه مجرد اختيار وجودي أو لحظات نخلد فيها لأنفسنا نهرب من ضجيج الحياة و نفاق المجتمع و هلم صور مبعثرة على حافة الطريق و في الشوارع و الأزقة، صور لا يعي وجودها إلا المسكون "بليعة السؤال و الحال و المحال".
حينما أسدل الليل أستاره تركنا الملاح و المقهى و ضربنا موعدا ليوم السبت 27 نوفمبر لنلتقي برفاق الحرف بزاوية سيدي اسماعيل على الساعة الرابعة بعد الزوال..
نسرق لحظات من الحياة لا تفي بالغرض ، و نحاول أن نعيش و نتنفس الحرف ، نصوصنا بيوت تسكننا و نسكنها و اللغة تعبر عنا بكل حروفها و حركاتها و سكنا تها.
لم ينشر خبر الأمسية الشعرية لهذا لم أكن على علم بالشعراء الذين سوف أحترق معهم في تنور الحرف. و لا الجهة التي تعتزم الاحتفاء بالشعر في زمن الفوضى العارمة و الاستهتار و الضحك جهرا أو خفية على ذقن القصيد.." و الفاهم يفهم ".
غسل المطر دروب مازغان وتمنيت لو يغسل المطر القلوب من الحقد و الضغينة التي عششت بها..ركبت الطاكسي ، الوجهة : زاوية سيدي اسماعيل .كان السائق يراود الطريق عن نفسه بهدوء تام يحاول تطبيق مواد المدونة أعني مدونة السير أو " الصير" كما يحلو لمحمد الخياري أن ينعثها..طالت المشاكسة بين السائق و الركاب حول مطبات المدونة و حسناتها ولو الهزيلة ..تذكرت والدي، رحمه الله، كانت له دراية بمغازلة الطريق و دربة على فك عقدها..
تمنيت لو يسكت الركاب و يلوذ السائق بالصمت و أتمم المسير إلى الزاوية دونما كلام يفسد دهشة اكتشاف الأماكن و دهشة مصافحة المفاجئات كيفما كانت..
أرسلت إلى مصطفى الريمي رسالة عبر المحمول ، بعد مد وجزر ووجل خفي ، هاتفني ليخبرني أنه في انتظاري..سألت سائق الطاكسي وقتها عن موعد آخر طاكسي يهجر الزاوية إلى الجديدة فقال أنه لا خوف على زوار الزاوية من العودة متى و حيث شاؤوا...
و أخيرا بعد لأي ووجل خفي و صلت لسيدة الكلام ، ألم تكن الزاوية هي التي رأت المبدع أحمد لمسيح و هو يصرخ أول مرة في الدنيا؟
الأماكن هي هي ، الزاوية منزوية كما هي دوما..نسمع فقط أصوات سائقي الطاكسي و دخان اللحم المشوي.
ثم مشاكسات أهل المكان..
كان الريمي ، ينتظرني بدماثته المعهودة و هو يلتحف خجله،راودنا دروبا ،تزينت بالوحل، عن نفسها، حاول أن يشرح كيف أنه لم يحالفهم الحظ في الظفر بمكان للقاء ، فلا دار الثقافة استطاعت استضافة الزجل و لا دار الشباب، مع العلم أنه منذ وعينا الحياة كان السبت للثقافة و الشعر والقصة و هلم إبداع يعبر عن الإنسان و المكان و الحياة ، و العلاقة الرابطة بين كل هذا و ذاك ..استوقني هذه المرة و أنا أسلم على دروب و أزقة الزاوية رفقة مصطفى الريمي سر اسم الزاوية ، لكل مدينة مغربية حكاية مع الاسم..ما السر المخبوء وراء كذا تسمية؟ زاوية سيدي اسماعيل ،هل هي زاوية في خريطة مغربنا الحبيب الذي بعشقه نحيا و بعشقه نموت..
هل هناك نفحة صوفية للتسمية خصوصا و أنها بالقرب من العونات حيث الزاوية الونسية الغنية عن التعريف..
و للإشارة فجذوري من أربعاء العونات ، و بالخصوص قبيلة بني تسيريس ، القبيلة التي يشهد لها التاريخ بالبسالة و رفض الظلم و لست من سيدي بنور كما سبق للقاص الماعزي أن كتب يوما..و صلنا مقر الاتحاد الاشتراكي ، لو كانت الفترة فترة انتخابات لرفضت ..
كان هناك حضور يليق بالشعر، و في مقدمتهم الزجال بوشعيب المجذوب..
بعد استقبال الضيوف والصلاة في محراب الشوق و الاشتياق، ولجنا الفضاء الذي تفضل باحتوائنا ذاك المساء، بعدها افتتح القاص عز الدين الماعزي اللقاء بتذكار الذين رحلوا و على رأسهم القاص الغرباني، و بعدها قام بتقديم بعض الأسماء فشنفوا مسامعنا بزجل قوي و متين..ثم قرأ الزجال المراكشي نصر الدين قصائد تحتفي بالانسان و المكان..قرأ بقوة الغيورين على مصير مدننا المغربية و المناهضين للشر و القهر و الفساد..زجال مسكون بهم البلد و بلعنة الحرف و فرحنه.. صموت يلوذ إلى السيجارة كلما أحرقته المعاني ...ثم مصطفى الخطاط، فالريمي الذي ملك المكان بصوته فقلت فعلا أسعفتني العبارة و أنا أنقش بورتريه الرجل، لم تنافقني لا العبارة و لا المعاني حينما رأيت في مصطفى الريمي مجذوب الزمان..له مواصفات تميزه و المبدع الحقيقي هو الذي يخرج عن النمطي و الشائع و المشاع..جسم نحيل يحمل صوتا تهنز له الأماكن و قد صدق حينما قال:" السكات ساكني"..
بجانبي كان المشاكس عبد الكريم الماحي،رجل أسمر بلحية سوداء كثة.. طويل القامة ، يلبس في أغلب الأحيان الأسود ، ملامحه تستعصي على التفكيك و القراءة..مزاجي ، حينما تلتقيه خارج اللقاءات الثقافية تجد فيه السامع العارف بمكامن الأشياء و الكلمات ، و خلال اللقاءات لا يجد في قلبه مكان إلا له ، فالأمكنة لا تسعه مع الآخر..
أتحف الحضور بالحماق تسطي و التي يفتتح بها دوما شهية السامع، شنق الحاضرين ب"قصايدو الملاح"قبل الشروع في قراءة النصوص ألح على الحضور بأن يصمت ، كما هي عادة الشعراء ..الماحي يطالب بالصمت و هو المملوك بالفوضى ، فوضى الكلمات و الحروف العارية إلا من حقيقتها..
عاد بي الماحي إلى التسعينيات حيث كنا ننشط بنادي الأدب بدار الشباب حمان الفطواكي،و أذكر أنني قدمته في أمسية آنذاك..ثم التقيته مرة أخرى مؤخرا باعدادية للامريم ، و أذكر أنني قرأت يومها قصائدا من ديواني رماد سنوات الصمت.حيث ارتجفت يدي و اهتز الجسد ، لا لشيء إلا لحضور أساتذة درسوني بنفس الاعدادية..ثم التقينا بأمسية مخصوصة للزجل بمناسبة اليوم العالمي للشعر: ربيع الشعر الذي كان من تنظيم الرابطة الفرنسية المغربية ..
اختتم القاص عز الدين الماعزي اللقاء فتوجه بنا الزجال بوشعيب المجذوب إلى المقهى، بوشعيب المجذوب رجل مربوع القد، أسمر البشرة بشوش و حيوي، كريم في الكلام فهو يرتجل كلاما وفق الحالة ، يتصرف بتلقائية دونما حساب لمحاسبة الآخرين، و قد يحسب البعض أنه يعسلط لكنه يعي ما يقول و يفعل.. أكرم الحضور بأطباق اللحم المشوي، و بالمياه بكل أنواعها ، كل يشرب على هواه ما يذيب أو يمحي شجنه أو سجنه فكل شخص سجين لهواجس و أحيانا لتهيئات أو سجين لصورة نمطية للمبدع..
نسيت أو تناسيت أن أذكر أن حبيبة زوكَي ، قرأت أيضا ما جادت به الحروف، و قرأت أشياء أخرى من وحي اللقاء لا مجال لذكرها الآن..
رافقني على الساعة الثامنة و النصف ليلا كل من عز الدين الماعزي و مصطفى الريمي لآخذ الطاكسي و أطوي الأحلام و الغد و المصير و انا أحاور ذاتي غب اللقاء...
من حسن الصدف التقيت الشاعر المغربي المبدع سعيد التاشفيني، قدمت له التعازي لكون والدته، رحمها الله، فارقت الحياة مؤخرا..
الشعر يسكننا و يستضيفنا على مائدة اللغة..الشعر سلوك أيضا و الشاعر الحقيقي من يسعفه الانزياح و العبارة كلما ضاق المعنى..الليل لا عيون له، لم أرتو كما أشاء من الأمكنة، تركت الروح هناك تجوب سرا أماكن كنت أشتهي مغازلتها..عدت لألتقي أخي الأكبر سعيد و هو يستعد للذهاب إلى البيضاء استجابة لنداء الوطن..
الوطن دم يجري بعروقنا ، الوطن حزن رسمه الزمن على وجوهننا ، الوطن فرحة لا حدود لها ..
عمتم صباحا و إلى لقاء آخر ضدا على أعداء الثقافة و الأدب، إلى لقاء آخر جديد لا يغدرننا فيه خونة الوطن،
إلى لقاء آخر مسمى أو غير مسمى لنكتب المواجع و الأفراح ، لنقول أن الوطن يكون بنا و فيه نكون، إلى لقاء آخر نحس فيه بدفء بعضنا ، و بضرورة الاعتراف ببعضنا، و ضرورة تواجدنا رغم ضيق الدرب و العبارة ، رغم اختلاف المعاني و غياب ألوان الحرف.. إلى لقاء آخر نقول نعي فيه و به أن لحم الصداقة لا يتعفن ، إلى لقاء آخر نقول فيه و به لرجل الشارع فكر في الخبز الحلال و الماء الزلال ولا تنس أن تفكر في غذاء الروح.
حبيبة زوكَي