إنها الثانية والنصف صباحا, منذ ساعتين ونصف عندما أعلنت ساعته منتصف الليل كان يستغرق في إغفاءة نتيجة التعب والإرهاق من سفر استمر لست ساعات بالطائرة ثم كان هناك إجراءات المطار التي استهلكت أكثر من ساعة.
عند احد المفارق الترابية التي تتفرع عن الطريق العام ، كان أول شيء أحسّ به هو تلك النسمة التشرينية الباردة التي لفحت وجهه حين أغلق باب الحافلة.
عشر سنين من الغياب لم تغيّر شيئا، مازالت الطريق المؤدية للقرية ترابية لا تصلح لسير الحافلات عليها، وما زالت اللافتة الحديدية الصدئة التي تحمل اسم قريته في مكانها عليها بقايا حروف شوهتها عوامل الطبيعة.
وضع حقيبته الوحيدة على كتفيه، ما أشبه الأمس باليوم فعندما غادر قريته كان يحمل حقيبة واحدة أيضا، وكما يدخل اللصوص في عتمة الليل، هاهو يدخل قريته ليلا ينهب الطريق المؤدية لها.
عشر سنين غيّرته تغييرا جذريا ولكن لاشيء يذكر قد تغير في قريته الصغيرة.
حاول إنعاش ذاكرته وهو يمر قرب البساتين المنتشرة على جانبي الطريق.
- هذا بستان أبو محمود حدث نفسه يريد أن يثبت أنه مازال يتذكر الأماكن ومازال الابن البار لهذه الأرض التي عرفته ذات يوم.
نعم هو البستان عينه وهذه الشجرات الباسقة كانت شجيرات صغيرة حين رآها أخر مرة، هنا التقى أبا محمود حين غادر القرية، كان الربيع يغطي الأشجار بحلل الزهر البيضاء الجميلة، في ذاك اليوم بادره أبو محمود قائلا تلك الجملة التي يتذكرها الآن جيدا، وكان قد تناساها لفترة طويلة.
" الطيور تعود إلى أعشاشها كل عام، فكن مثلها ولا تطل الغياب" هذه كانت كلمات أبا محمود ذاك اليوم الربيعي المعطر بشذا الأزهار.
آه أبا محمود، لقد مضى على الطائر عشر سنين، كأنها عشرون قرنا، تبدلت خلالها المواسم عشر مرات، ومثلها عادت الطيور لأعشاشها.
هاهو المهاجر المتعب يعود محملا بالحنين والوجد، لم يجرؤ على دخول عشه نهارا، لا يدري مما يخاف، أن لا يعرفه المكان فيمر كأي عابر سبيل، أو أن يتوه هو عن المكان فيكون كأي مكان مر به من قبل دون أن تعتريه رعشة الشوق واللهفة، لذا اختار أن يتسلل متخفيا بستار العتمة سابحا على صهوة حلم لا يريد الاستيقاظ منه.
مع اقتراب خطواته المتعثرة من طلائع منازل القرية، أخذت ضربات قلبه تتسارع، حين رأى ضوءا خافتا يشع من غرف أحد المنازل على جانب الطريق.
إنه منزل " سعاد " جمد في مكانه، ارتعدت أوصاله لمجرد التفكير أن سعادا مازالت ساهرة ، ترى هل سيلعب القدر الذي عانده لسنوات طوال لعبته، هل سيكون إلى جانبه اليوم وسيكون اللقاء بسعاد أول شيء قد يصادفه في هذا الليل... لا هذا غير ممكن حدث نفسه محاولا استجماع كيانه الذي كان يبدو كالمذعور، فمنذ أن غادر وأخبارها منقطعة عنه، منذ عشر سنوات لم يكن يملك من سعاد إلا بعض ذكريات جميلة لأول حب عرفه.
هناك شبح يتحرك خلف النافذة المغطاة بستارة ‘ يكاد يجزم في قرارة نفسه الثكلى أن سعادا هي التي خلف النافذة وقد جافاها النوم في هذه الليلة الباردة، ترى هل حدثتها نفسها بقدومه، فبقيت مستيقظة حتى هذه الساعة تنتظر أن تسمع وقع خطواته على الطريق المحصى، فتفتح نافذتها وتمد ذراعيها وشاحا يلفه.
كانت الدموع تسيل على وجنتيه والحرقة تعتصر قلبه، فعلى مدار السنوات العشر الماضية، كانت سعاد حاضرة دائما في ذهنه، ولكنها لم تحضر ولم تتواجد إلا كذكرى، ترى هل ظلمها؟؟؟
أشاح تفكيره عن هذه الفكرة التي طالما أرقته في كثير من الليالي، وأخذ يدندن لحنا أجنبيا كان يحفظه، لحنا حزينا كهذه الذكريات التي تعتريه الآن، ثم ردد كلمات الأغنية:
إذا أتيت ذات يوم..
ستجدني دائما..
وحيدة أجلس أمام بابي..
بانتظار عودتك!.
تلك هي كلمات الأغنية، ولكن هيهات بين كلماتها وما أنت عليه اليوم، طوال السنوات العشر الماضية لم تسأل عنها،لم ترسل لها رسالة تطمأن فيها عنها، أو تطمئنها عنك!!! فلم تتوقع أن تكون بانتظارك؟؟؟
هي الذكريات ، ... بريجيت التي تعرف عليها في تلك البلاد البعيدة، والتي كنت تناديها " سعادا " تيمنا بسعادك، حبك الأول، لقد غيرتك الغريبة، وها أنت الآن غريب تشعر بالغربة.
تجاوز بيت سعاد وهو ينظر مطرقا إلى الأرض، لم يجرؤ على رفع نظره اتجاه النافذة المضاءة التي لا تبعد عنه أكثر من خمسة أمتار، مشى على أطراف أصابعه وهو يتجاوز بيتها.
_ كم أنت مجنون، أتظن أنها مازالت تذكرك؟، حتى لو نظرت من النافذة في مثل هذه الساعة، أو في أي وقت ورأتك، فلا أظن أنها ستعرفك، لن تود أن تعرفك حتى!.
انظر إلى المرآة هل نسيت بالأمس حين نظرت في المرآة قبل أن تغادر شقتك كيف ارتعدت وكأنك ترى شبحا مرعبا، رأسك اشتعل شيبا، والسنون حفرت في وجهك أخاديدا عميقة، ليس فيك شيئا مميزا، سوى ثيابك الأوروبية التي لا تنتمي لهذا المكان، لذا لن تفيدك في شيء، لن تعطي انطباعا لدى الآخرين سوى الدهشة والاستغراب.
ماذا فعلتْ خلال هذه السنوات العشر، عملت.... وعملتْ، عانيتَ ما عانيتْ من مآسي الغربة وأعبائها.
ها أنت تعود، لا تحمل إلا حقيبة واحدة فيها بعض ذكريات من بلاد غريبة إلى جانب بعض ذكريات ارتحلت معك يوم غادرت وها هي تعود لموطنها الآن، ما أشبه الأمس باليوم مع الأخذ بعين الاعتبار أنك كنت أصغر سنا بعشر سنوات.
- ترى هل تساوي هذه الحقيبة وتلك النقود التي جمعتها ما عانيت من أجلها؟؟
- ترى هل تساوي لحظة حزن أو دمعة انهمرت من عيني سعاد حين ودعتها؟؟
لا أظنك كنت تحسب الأمور بهذه الطريقة، حين غادرت، ولكن الآن أصبحت هذه الأمور معادلة عليك أن تحلّها.
انظر كم أنت جاحد، ذكرياتك تكاد تنسيكَ أنك في طريقك إلى بيتكْ!، حيث هناك أما يحترق فؤادها شوقا إليك، وأخوة صغارا، نسوا كيف هي صورتكْ، لا يعرفونك إلا من خلال المبالغ الصغيرة التي كنت تبعثها إليهم بداية كل شهر، فأنت بالنسبة إليهم لست أكثر من آلة تعطي النقود كلما طلب منها ذلك!.
ترى وقد وصلت الآن أمام باب بيتك، هل أنت مستعد أن تطرق الباب معلنا قدومك؟؟، أم ستستدير وتقفل راجعا من حيث أتيت؟؟؟