صراحة، لم أكن اعلم ما ستؤول إليه حالتي، لم أكن أتوقع أن يكون شعر بشار بن برد حقيقيا لهذه الدرجة، وأنني سأكون أسير بيت من أبياته أو شطرا منه، و أستخدمه لأبرر حالتي، ((( الأذن تعشق قبل العين أحياناً ))).
نعم لقد ألِفْت وعشقت صوتها أولاً، حتى أحسست أنه يتملكني، كنت أحسّه يزحف بطيئاً كسلحفاة، فوق جسدي وروحي ليغطيني ويغمرني بعباءة من الحنان والطمأنينة، صوت ترتاح له النفس، وتسمو مع نبراته وموسيقاه الروح.
تعرفت إليها من خلال غرفة صوتية على الانترنت، في البداية، شدّني إليها رقة وعذوبة صوتها، كانت كلما قدمت شيئا في الغرفة، أستلم اللاقط لأثني على أدائها وحسن إلقائها، ثم صرت أجيب على ما تقدمه بمثله، فلو قالت قصيدة كنت أجيبها بقصيدة، ألمح من خلالها لمشاعري اتجاهها، وأحيانا كنت أعنيها بكل كلمة أقولها.
أُعجب كل منا بإمكانات الآخر، ثم بعد فترة قليلة، أعطى كل منا عنوان بريده الإلكتروني للآخر، صرنا نمضي قليلا من الوقت في الغرفة الصوتية، ثم ننتقل لنتحادث عبر بريدنا الإلكتروني.
لم أعتقد للحظة واحدة أن هذه الحياة الرقمية ستصير عندي هاجسا وهدفا.
كنت أطير فرحا إذا رأيت بريدا قادما منها، ويغمرني فرح طفولي، إذا أضاء بريدها أمامي على شاشة حاسبي، أمضينا ساعات طوالاً، نتحادث ونتعارف، استخدمنا الكاميرا وتعرف كل منا على صورة الآخر، بعد أن عرفه ، وأحبه، وعشقه، من خلال صوته،لم تغير الصورة شيئا من العلاقة بيننا، فقد تملك حب ذلك الصوت فيّ، حتى جعلني أراها مليكة قلبي وسيدته، جميلة الجميلات، نعم لقد غرقت في بحر حبها، وبالمقابل كنت أحس أنها تبادلني نفس الشعور بالحب الجارف الذي لم يكن هناك حدود له، صارح كل منا الآخر بحبه ومشاعره خلال الساعات الطويلة التي كنا نقضيها مع بعضنا، كلٌ من خلف شاشة حاسبه، في المكان الذي يقيم به.
تصوروا هذه التقنية الجميلة المسماة ” انترنت ” كم قربت المسافات بين الأشخاص، وكم كسرت الكثير من الحدود والعوائق بينهم، فأنا لم أتصور في يوم من الأيام، أن تجمعني علاقة حب بفتاة تقيم في أوروبا، وأين أنا من أوروبا ذلك الحلم الذي قضى الكثيرون نحبهم ولم يحققوا أحلامهم بالذهاب إليها، كيف أصل أوروبا، وأنا هنا في هذا الوطن الذي يفرض علي إظهار بطاقة هويتي وجواز سفري، حين أتنقل من بلد لآخر، أو من مدينة لأخرى، وأحيانا ضمن نفس المدينة، يتوجب علي أن أعلن عن نفسي وأظهر بطاقتي الشخصية أكثر من مرة.
كنا نعلم يقينا نحن الاثنين، أن لقاءنا في الواقع مستحيلا، لأسباب كثيرة تتعلق بي وبها، ولا أريد أن أشرحها هنا، لأنها لا تقدم أو تؤخر في الأمر شيئاً.
خلال شهر واحد، بلغت درجة حرارة حبنا حدا كنت أحس فيه أن أسلاك الكهرباء ستنصهر أن شاشة الحاسب ستنفجر، من حرارة الشوق واللهفة اللتان تتملكاني، كلما كنا نتحدث سوياً.
خطرت لي فكرة عندما كنت أتابع منظرة في التلفزيون، تتحدث عن نوع من الزواج، يسمى زواج المسيار، لأول مرة أسمع بهذا المصطلح، ولكي أعرف ماهيته وكيفية عقد مثل هذا الزواج، بحثت عنه على محرك البحث الشهير على الانترنت ” غوغل “، كتبت في خانة البحث: ” أنواع الزواج المعروفة في الوطن العربي “، وكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أطالع أنواعا من الزواج لم تكن لتخطر على بال إنسان يعيش في هذا المجتمع.
تعرفت على أنواع عديدةٍ من عقود الزواج، بدءاً بالزواج الرسمي المتعارف عليه، والذي يتم ضمن نطاق مؤسسات المجتمع الرسمية، بحضور الأهل والأصدقاء والمأذون والولي والشهود، وكذلك الزواج العرفي، وهو عقد غير موثق بين طرفين، الذي يتم عن طريق أحد المشايخ، بعيدا عن رقابة مؤسسات المجتمع الرسمية.
ثم تعرفت على زواج المسيار، أو زواج الإيثار هو زواج ومصطلح اجتماعي انتشر في العقود الأخيرة بالدول العربية وبعض الدول الإسلامية. ويعني أن رجلا مسلما متزوج زواجا شرعيا مكتمل الأركان من رضا الزوجين وولي الأمر والشاهدين وتوافق الزوجة على التنازل عن حقوقها الشرعية في الزواج مثل السكن والمبيت و النفقة.
أما زواج المتعة أو المؤقت هو إلى أجل لا ميراث فيه للزوجة، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل.
ثم كان هناك زواج الكاسيت، تصوروا زواج الكاسيت والذي من خلاله يسجل كل منت العروسين تسجيلا صوتيا يردد فيه ما يقوله خلف المأذون الشرعي، ثم يقوم بتسليمه للطرف الآخر، ليصبحا بعد ذلك زوجين، وهذا الزواج شائع بين طلاب الجامعة في عدد من البلدان العربية، ثم اطلعت على نوع آخر يسمونه زواج الطابع، وفيه يشتري العروسان طابعين متماثلين، ويلصق كل منهما أحد الطابعين على جبين الآخر، ليصبحا بعد ذلك زوجين.ونوع أخر يدعى زواج الوشم … وزواج الفرند…
خطرت لي فكرة جهنمية، لماذا أنا أيضا لا أجد طريقة تجعل من هذا الحب الرقمي علاقة شرعية، مادام الكل يفتي، لماذا لا أجد فتوى تبيح لي ما يظنه الناس خطأً.
نعم، لماذا لا يكون هناك ما يدعى بالزواج الرقمي، حيث يتلو كل من العروسين، كل من أمام شاشة حاسبه، ما يردده خلف المأذون الشرعي، بل ويمكن أن يدعى مأذونا شرعيا رقمياً، وشاهدان يحضران هذا عبر الانترنت، شاهدان رقميان، وبعدها يمكن إقامة عرس رقمي، يدعى له الجيران من الغرف الصوتية المجاورة، الصديقة والشقيقة، وحتى المعادية منها، فكل شيء في العالم الرقمي متاح.
طرحت هذه الفكرة على حبيبتي الرقمية، استغربت في البداية، وبعد أن شرحت لها الفكرة، وقدمت المبررات، وافقت،على أن تكون العصمة بيد كل منا، أي أنه يمكن لأحدنا دون الرجوع للآخر فسخ هذه الزواج بدون أي حرج،لا يهم مادام كل شيء رقميا، فعلى الأقل سنكون أول زوجين رقميين يتحدث عنهما العالم، وقد ندخل كتاب غينيس.
وكان ذلك، في اليوم المحدد، دعوت ثلاثة من أصدقائي، واحد منهم يقوم بدور المأذون، كتبت له ما يتوجب عليه قوله لنردده وراءه، والاثنان الآخران، يكونا الشاهدين على الزواج.
دخلت غرفتنا الصوتية التي نجتمع بها وأخبرت مشرف الغرفة عن زواجي الرقمين واستأذنته أن أقيم عرسي فيما بينهم، فمن لي غيرهم وهم الأهل والأصدقاء الذين اقضي بينهم جلّ وقتي، في هذا العالم الرقمي المترامي الأطراف.
رحب مشرف الغرفة بالفكرة، وبدوره وضع أعلانا ليقرأه كل من يدخل للغرفة:
تتشرف غرفة الحوار والفكر الرقمية الصوتية، بدعوتكم لحضور حفل الزفاف الرقمي الميمون الذي يتم من خلاله زفاف:
الأستاذ الشاب الرقمي ******* صاحبة العفاف الرقمية
ساهر الليل ******* شذا الشوق
وذلك ضمن حفل فني رقمي ساهر في الساعة العاشرة من مساء هذا اليوم بحضور الأهل والأصدقاء الرقميين، وبتشريفكم يتم سرورنا، ودامت الأفراح في دياركم الرقمية.
تقبل التهاني بإرسال الإيميلات إلى البريد الإلكتروني:
saher_allil@ digital.com
في العاشرة تماما، دخل العروسان بلون مختلف تم تزويدهما به من قبل مشرف الغرفة الصوتية، وعلى أنغام موسيقى الزفاف المعهودة …
بدأت الحفلة بكلمات التهاني والمباركات والتشجيع من الأصدقاء والأهل الرقميين الأوفياء الذين حرصوا على حضور هذا الحفل رغم الكثير من مشاغلهم الرقمية المزدحمة، ثم بدأ الرقص والمغنى والإهداء، والقصائد , ….
استمر الحفل حتى ساعة متأخرة من الليل، وبعدها استأذن العروسان بالانصراف، وأطفأ كل منهما حاسبه، وبدل ثياب العرس بملابس للنوم أنيقة كان قد حضرها لمثل هذه المناسبة ثم دلف كل واحد منهما إلى مخدعه، لمتابعة مراسم الزواج، فليس لهم سوى الحلم واحة وسريرا للقاء، لم تمض لحظات حتى غفى كل منهما وابتسامة أنيقة تعلو محياه.
في صبيحة اليوم التالي، استفاق العروسان ظهرا، وقبل أن يغسل أي منهما وجهه، قام بتشغيل حاسبه، كأنهما تواعدا على نفس اللحظة للدخول، تبادلا تحيات الصباح ، وقبل الصباح، وراجعا معا تفاصيل حفلة الأمس الجميلة، وروى كل منهما للآخر أحلامه وانطباعاته عن الليلة الأولى للزواج.
تتالت الأيام، وهما في سعادة غامرة، يذهب كل منهما إلى عمله صباحا، في البلد الذي يقيم فيه، ويبقى يجرفه الشوق والحنين، بانتظار حلول المساء، حيث اللقاء، والحب، والحياة.
ساعات طويلة قضياها خلف شاشتي حاسبيهما، يتكلمان غزلا وعشقا وشوقا وحنانا، يكتبان أغني الحب واللوعة والفراق، يستمعان إلى الأغاني التي تتحدث عن البعد والحب، ينظر كل منهما في عيني الآخر، راسما الحب والشوق والألفة على تقاسيم وجهه، لتنقلها الأسلاك للحاسب الآخر على الطرف الآخر من الكرة الأرضية.
لم يبق رمزا متوفرا ولم يستخدماه للتعبير عن مشاعرهما، فمثلا، إن أراد أن يقبلها أرسل لها رمز الفم!، وإن أراد أن يقول لها احبك، يرسل رمز القلب الأحمر، أما رمز الشخص الذي يفتح ذراعيه، فكان للتعبير عن الشوق للقاء، ورمز الوردة ليقول لها ، كم أنت جميلة!!!
وهناك رموز للغضب، والدهشة، والفرح ، والحزن، والجنون، والتفكير، والخيبة، و .. و .. و … و !!!
استمرا على هذه الحال لمدة ستة أشهر، ثم ذات يوم ودون سابق إنذار فتح كل منهما بريده الإلكتروني، ليجد رسالة حملت نفس العنوان:
” أنتَ طالق ” … ” أنتِ طالق “.
ضحكا كثيرا، يبدو أنهما متفقان حتى على الطلاق، الله ما أعظم هذا الحب الذي جمعهما!
فتحت رسالته وقرأت:
” حبيبتي .. بعد ستة أشهر من السعادة، وبما أنه لم يعد هناك رمزا يستطيع أن يعبر عن مشاعري وحبي لك، وحيث أنني استخدمت كل الرموز المتوفرة ولأكثر من مرة، أرجو أن تقبلي انسحابي الهادئ هذا، ولأنني أحبك وأريد أن أحافظ على جذوة هذا الحب مشتعلة، ” أنتِ طالق ” .
ساهر الليل
فتح رسالتها وقرأ:
” حبيبي .. بعد ستة أشهر من السعادة، وبما أن رموزك التعبيرية لم تعد تحرك في إلا الملل والرتابة نتيجة التكرار.. حتى أنا مللت من نفسي وأنا أكرر نفس الرموز يوميا، لهذا كله، ولأنني أحبك، ولا أريد أن تصبح ذكريات الأيام الماضية الجميلة كابوسا يرعبنا، ” أنتَ طالق “.
شذا الشوق
أغلق كل منهما حاسبه، وابتسامة أنيقة تعلو محياه.
دمشق – 29/5/2010