حرمني ذلك الزعيق النوم، التحفت أول شيء صادفته ووقفت بشرفة الشقة أتأمل الهطول الغزير لمطر نونبري بارد. كانت شقتي بالدور الأول، وكان وقع المطر في الشارع الخالي يقرع أذني في إيقاع متناغم، أراح أعصابي وأنساني الضجيج الذي رمى بي خارج دفء السرير. ألقيت جسدي على كرسي خشبي جنب طاولة الشرفة، واستغرقت في تأمل مصابيح الشارع تضيء خيوط الماء السماوية، وتضفي على الليل سحرا أعاد لي دهشة الطفولة الأولى، وذكريات بعيدة، تولت وذاب أغلبها بين طيات العمر. آآه، سرحت في لحظات حالمة لم أنتبه إلا ويدي تمتد لمنقوع دافئ لم أعرف متى وضعته زوجتي أمامي وتسللت دون إثارة انتباهي.
كنت أتابع الرشفات في استرخاء حين لفظ باب العمارة، من بين ما لفظ، خمس أو ست جلابيب رجالية بيضاء تعتليها عمامات مزركشة، احتمى أصحابها من المطر بسقف شرفتي، بينما هرول الآخرون واختفت بهم سياراتهم وسط المطر وصخب المحركات. هممت بالرجوع لسريري عندما سمعت أحدهم يتساءل:
- فين سي التهامي ؟ .
- مشا يبول..
تسمرت في مكاني
- شحال عندك انت ؟
- ربعين درهم.
- ألا ستين.
انعقد سوق بورصة في الأسفل.
- آه؟ خمسين..خمسين، الله يلعن الشيطان
- آ ستين آسي المعطي، مال هاذ الشيطان لاصق فيك غير انت؟
- سد فمك أسي لحسن خلينا نتحاسبو غير بشوية..
تمنّعتْ ضحكة رغم حرصي وانفلتَ صوت من بين شفتي المزمومتين. انتبَهوا. ساد صمت لبرهة قصيرة...:
- انت؟
- لا. والله مانا..راه سي المعطي اللي سرط بزاف..
- حضي انت غير سي المعطي.
لم أستطع منع الضحك هذه المرة فجريت إلى داخل الشقة وانفجرت مقهقها..صاحت بي زوجتي من غرفة النوم:
- ياك لا باس؟؟
.................................................. .....................................