منتديات دواوين الثقافية و الفنية منتديات تعنى بالأدب والثقافة والفن.
 

 

 الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان "

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
حسن برما
عضو جديد
عضو جديد
حسن برما


المدينة : الدار البيضاء
عدد المساهمات : 11
معدل النشاط : 22
تاريخ التسجيل : 10/05/2012
الموقع : www.da-wawin.com

الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان " Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان "   الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان " I_icon_minitimeالثلاثاء 15 مايو - 0:30

الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان "

ــ 4 ــ

و لو ــ بتأكيد العاجز ــ قدرت حسن النية ، لو كان بالإمكان تجميد براكين الهم و صلب جروحي فوق أسوار المقبرة المثقوبة لرأيت في حيرتي عجائب الواقع، لكنك لا تقبل إلا بلغو المضروبين على رؤوسهم، و الاحتراس معك واجب ، و تسليمك بواجب الاحتياط من بنود كل ما من شأنه أقرب من حبل الغسيل .

حبل الغسيل أم حبل الوريد ، لست أدري ، و دمائي المستباحة تطارد غيبة القابعين الصامتين الحالمين بنوم ثقيل يحجب تفاصيل الجسد الممدد فوق موائد أصحاب الوزيعة و جوعهم الخرافي .

و في نفس الآن ، لم يحضر " حميد " و لا تكلم " سعيد " ، و بنات الحاضر يعرضن ألوان الإغراء في موسمهن الخالد .

خرج " عمر " من انحراف اليسار ، معلم عازب قارب الأربعين ، وجه عبوس تركت عليه شمس البادية آثارا بارزة، صافحنا و قال : " واااااااا عليكمو السالااااااام " ، أجبته مبتسما " " وا عليكمو التيساع " ، و مثلما يفعل مع أطفال المدرسة ، تحاشى النظر لــ" سعيد " و سألني عن سبب تلحين لفظة السلام ، قلت له : نحن نعرف السبب ، و قصة الفقيه العجوز حفظناها منذ لفظتنا مدارسكم و طردتنا قرارات " الطرشة " الطائشة .

كنا نضحك كلما سمعنا السلام بنفس الطريقة ، نتذكر التفاصيل و لا نمل من إعادة نفس الحكاية ، تتحول ظلمة الليل إلى صهد الظهيرة ، الفقيه العجوز يجلس كعادته أمام حانوت الدرب الضيق ، يردد ملحنا قصيدته الفريدة " بركة الإمام " ، لم نسمع لقصيدته في يوم ما بداية ولا نهاية ، و لم نكن نهتم بذلك ، لكنه كان يتوقف عند مقطع محدد ويغير الإيقاع ، يشرع في التصفيق كما لو أنه وسط جوقة عميان ، يرفع صوته ، يضغط بقوة على السواكن ، يطيل الحركات ، يصبح الإنشاد غريبا ذا إيقاع جنائزي مؤثر ، ثم كأنه نسي اللجن الأول ، يعيد المقطع يإيقاع مغاير ، ينشد :" و وجه الصفا لرحمته نحن ننتظر " ، تغطي شتائم باعة الخضر البديئة صوت الفقيه و بركة الإمام ، يتابع شاردا ركض الأطفال المجنون وراء كرة بلاستيكية مثقوبة ، يمر قربه " ولد الجعبة " يلقي بالسلام عليكم على عجل ، يرد العجوز دون تركيز: " وا . . عا . . ليـ . . كمو . . السا . . لا . . م م م " ، يفاجئنا جديد الإيقاع ، يقينا أنه في غمرة الشرود ، و متابعة ركض الأطفال ، و لغط الباعة ، و اللحن الأصلي ، و سلام " ولد الجعبة " العسري ، و انتظار صدقة من لا يرحم ، أمور تداخلت مع ضرورة رد السلام ، انفجر ضحكنا في صخب و هيستريا ، التفت نحونا بعض الباعة، توقف الأطفال عن ركضهم ، الجميع حدق فينا، و كنا لامبالين نضحك ، ننظر جهة الفقيه العجوز و نضحك ، و لم تخمد قهقهاتنا إلا بعد أن استغفر و لعن الشيطان واستعاد المقطع إيقاعه الأول " و وجه الصفا لرحمته نحن ننتظر " ، " و للكروب وعده أيسر دواء " .

و عدنا لظلمتنا ، شردت نظرات " عمر " ، زاغت نحو اللامرئي ، تأفف و قال الرحمة على زمن السلام ، إنما هل معكم ما يدوخ العقل و يرحل بالوعي ، أجبت بالنفي و أضفت : " انتظر سيأتي " حميد " بزاد الليلة ".

طلب منا تسوية حيز مكاني ليجلس و يترحم على عقولنا بأرقى مشتقات نبتة الغياب ، تزاحمنا فوق العتبة الضيقة ، ثلاثة أجساد تفترش الإسمنت البارد ، و طابور العابرات لا ينتهي ، إناث بارعات في طقوس التحمل و الغياب و التواءات الرعشة الموؤودة ، و رؤوس ثلجية تتفتت تذوب فوق نار الزمن الملغومة .

صنع المعلم " عمر " لفافة تبغ أمريكي مخلوط بدقيق العشبة ، كعادته أتم العملية باحتفالية مضحكة ، أشعل اللفافة ، عب نفسا طويلا ، النار تأكل تبغ الأرض الداعرة ، ستحرق شاربك ، قلت ، بأمريكا و عشبة الغياب ، قال ، تحترق الأجساد و نعيش نشوة العصر الملغومة .

و كانت البداية ، استمر الدخان الأمريكي في رسم أشكاله و احتضاره المألوف ، مد " عمر " باللفافة لـ " سعيد " و قال ، من اليسار و لو كان " يوسف " على اليمين ، ضحكنا ، قلنا : تلك قوانين اللعبة .

حل دوري لحشو الرأس بدخان أمريكا و خليطه المشاع ، قمت بالواجب و انتظرت غياب اللحظة ، كلنا هكذا ، نأخذ نفسا طويلا ، تشرد الأفكار ، تشتعل الأحلام ، نخمدها ، تحضر الأوهام ، نطردها ، و حين يأتي الدور علينا ، نستعد لرحلة الهروب ، ننسى شقوق الذاكرة المطلية بشعارات الواجب و الكائن و ما لا ينبغي أن يكون .

و برد المساءات الحزين ، انجذاب العمر نحو متاهات الصمت و التواطؤ ، و كل " الطرشة " قبر وديع يستقبل موتاه بالذي يلزم من اللطف و حرمة الحفرة المظلمة ، و ذاكرة من لا ذاكرة لهم ، و شرود جيل تعيس ، و تعب " للا خديجة " ، و الحصيلة : خواء عبثي و عجز بليد يبحر في مراكب الموت و جنون الساقطين بقوة القانون و فعل سوء التقدير .

سألت " عمر " عن جديد " الحمداوي " ، الكلام حوله هراء ، قال ، و الحديث عنه بالأمانة المطلوبة مغامرة محفوفة بكل أنواع المزالق و المخاطر ، و رغم ذلك ، قلت ، تكلم و نحن نفهم !!

كنت أدرك أن " عمر " سيدخل إحدى محطات الإقلاع ، أعطانا حقنا في الغياب لكنه قد حضر، لا الأجساد العابرة موجودة و لا شارع النعامات هو الأوحد ، و عادة الجميع أن تتأسس الحكاية وراء أسلاك الحيطة و ادعاء البراءة بالعبور بين ممرات المعتاد و المطلوب و ما من شأنه . . و الأمر غير محسوم في النهاية .

تأكدت العيون من بعد الآذان الطويلة ، تحرك " سعيد " ، أخرج جريدة " الوصية " للمرة الثانية ، فتحها على نفس الصفحة ، حدق في الصورة ، رمى بالجريدة في حضن المعلم ، و مثل من يجعل نهاية لمشهد لم يعد يثير العجب ، قال :

ــ هذا هو الرجل في " الطرشة " و كلنا نساء ! !

رد " عمر " :
ــ حتى النساء نهضن ، أقمن هامشا للحق و الحجر

أطفأت اللفافة ، و تدخلت :
ــ عن أي امرأة تتحدثان . . و أي زمن تعنيان ؟
ــ عن كل النساء ، عن " للا خديجة " أخت " سعيد " و عن الخليلة .
ــ و رجولة الكادحات ، انسحاق الأنثى ، يأس الذكورة .
ــ و الحاضر الداعر ، و المستور ألغام طريق مدفونة .

بالتأكيد ، قلت ، لو استمر كلامنا عن " الحمداوي " بهذه الطريقة لغرقنا في بحر الشك و العبث و الغصات و كان من حقك أن ترمي بأوراق هذه الحكاية حتى لا تدوخ و أنت الغارق في همومك اليومية و زيادة . . ياك ! !

لكن .. هون عليك . . هذه سيوفنا الصدئة تعارك الزمن و نحن عراة سوى من أسمائنا ، و برد الصباحات القاسي ، انتشار الغيبة و الخيبة ، مطر أكتوبر الهارب ، والهزائم قذائف من مدافع البغال ودبابات القرود وأثرياء البلادة و القدود المعروضة و بنات آخر العنقود .

ثم أعود لأسألك ، هل من حق العاطل مثلي تنميق الكلمات ، و قطع الأغصان الجارحة لتتحول الحكاية إلى مصيدة تتحايل على تفاصيل القبر و العجز و القهر و سبق الإصرار ؟ هل المطلوب حياد البناء و الإقرار المسبق بخطوط سوية تضمن تواصلا هادئا يرغب في توسيع حلقة الغائبين في نفس الحيز المهادن ؟ ! !

لست أدري أمِن حقي إخفاء جرح الكائن ، و احترام حدود المألوف و الحكاية روايتنا ، اسمنت لعين يسكن الجماجم ، يسدها ، و " الطرشة " بوهمها تنام تحت غطاء الظلمة بين صخور المحيط و أسوار الخلجان المستباحة ، بيوتها تركب بعضها البعض ، و النوافذ في حجم الشواهد ، و " الحمداوي " يفضح و لا ينصح .

و عجبي من أضداد لا تبكي و لا تفصح . .
و شارع النعامات مزدحم بالعناوين و العلامات . .
و نحن الأسماء الواقعة تحت سطوة الرغبة و حرقة الدواخل ،
تدركنا شظايا اللعنة ،
نقرأ " الوصية "،
نرى " الطرشة " بعين " الحمداوي " ،
و ترمينا الأيدي في فرن العشيرة . . .
فيا " يوسف " . .
اترك " الطرشة " على حالها . .
فتلك مسألة كما قال " حسن " فيها نظر . .
اسمع . .
هل قرأت الحكاية . .
هل حفظت كلام الهادي . .

زعموا أن بلدة منسية في رحم التاريخ ، أصابها السحر و دخلتها الشياطين من كل الأبواب ، هكذا شرعت " الوصية " في بسط البدايات ، و زعموا أنها لاهية بالليل فقيرة بالنهار، سكانها الشرقيون عاطلون يلغطون ، تحت خيامهم الواطئة ، يقدفون فروج البئيسات بماء المعدن الرخيص ، تستمر وقائع المرضى و خرافات العطش المتناسلة ، و حين يكشف الفجر ذيول الفضيحة ، يموتون . . أما سكان الجهة الغربية فالجعل " بوجعران " تفل في أيديهم و تركهم يركضون يتقافزون و يتعبون دون توقف و نهارهم ظلمة من نوع مغاير .

لا ، لم تكن حكاية " الوصية " بهذا الشكل ، بل كان الكلام تشخيصا ملتاعا لفضاء أصابه السحر فاختلطت فيه المقاييس و تشابكت الأوصاف ، لذلك لا معنى في الجهات إلا للظلمة و الصمت و العطالة البلهاء ، و " يوسف " يعيش وهم القفز فوق الخرائط و جرح العتبات .

و غير مهم أن تسأل عن جنس الآدميين و حركاتهم تفضح الرغبة و انطفاء الحلم في موطن السلام . . لا ، ليس ذاك أصل الوهم ، إنما هو منبع الهم يخلط ألوان الحدود الرملية بشذوذ هذا الجنس البائد من بني البشر .

و كل الهموم من السؤال تبدأ ، انبتت " الطرشة " فوق اليابسة خيمة وبرية أدركها عقم الرحم و تحولت إلى أوتاد صدئة و أشكال هندسية غريبة لشواهد و قبور مطلية بلون الغروب و الواجهات المعروضة بريق مستورد فوق أرض جرداء انفجر ماؤها جراحا سوداء رائحتها تعمي الأبصار و انقسمت القبائل و العشائر إلى جماعتين .

جماعة بتاء التأنيث اعتزلت زاوية شرقية مدت فيها شوارع ثعبانية و أضواء بلون الغباء الشاذ ، رأت في الماء فرحا و من جرحه كسبت دولارات أقامت بها أعراسا أغرب من الخيال ، و حين انتهت أوقفت عند الأبواب العطلانة حراسا أشداء يمنعون ولوج كل قادم غريب لم يعترف ببركات الماء الأسود .

وجماعة غربية خرجت بالنهارات الباردة تجلب لوازم الدفن و تهيئ طقوس الفناء ، فكان العرس موتا و اللغط صمتا و النشيد مناحة أطول .

و " الحمداوي " صاح ينادي عرس الأضداد ، قال لأهل " الطرشة " الطيعين الصامتين : " يا قومي إني جئتكم نذيرا فاسمعوني لعلكم تتكلمون ، بالشرق جرح و بالغرب وهم و ما بين الضفتين جليد و أسلاك و أشواك بحجم العيوب المتناسلة . . و يا قومي إني أجيئكم بشيرا لو تسمعون " .

و استمر الكلام إيقاعا واحدا يساوي بين أسماء العشيرة و أبناء الكلبة و الناقة و بقية أعضاء الحمير المربوطة داخل إسطبلات " الطرشة " المحروسة .

فيا " عمر "
لم يسألوا " الحمداوي " . .
و لم يحكموه . .
لكنهم غيبوه . .
و هنا قلب الحكاية . .

حلت بـ " الطرشة " لعنة " الحمداوي " ، استباحها الكهنة و المنجمون ، أصابنا رعب الخواء ، و لم نكن ندري ، أو ربما هكذا قالت " الوصية " و نحن صدقناها ، و " حميد " ابن العاهرة عولنا عليه و لم يحضر ، غاب عنا و طلب الانتظار ، و لولا بركة المعلم " عمر " و معرفته بخواء الجيوب و هلوسات الجماجم المحشوة بزبالة الوقت لكنا الآن فوق برد العتبة نلهو كالحمقى بإحصاء خطوات العابرات بشارع النعامات. . و لا نتحرك .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعيد محمودي
المدير العام
المدير العام
سعيد محمودي


المدينة : الدار البيضاء
عدد المساهمات : 7236
معدل النشاط : 12091
تاريخ التسجيل : 08/12/2009
الموقع : www.da-wawin.com

الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان " Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان "   الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان " I_icon_minitimeالأربعاء 16 مايو - 23:48

اخي الفاضل الاستاذ حسن برما
يوما بعد يوم تتوضح وتتجلى لنا مواهبك وإبداعك والفكر الراقي الذي تحمله
قرات واستمتعت بالفصل الرابع من الرواية التي تستحق القراءة أكثرمن مرة
محبتي وتقديري لك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان "
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الأول ــ كاملا ــ من رواية " حارس النسيان "
» حارس النسيان (رواية قيد الطبع ) ــ مقطع من الفصل الاول
» رواية وجوه لرجل منسي" الوجه/الفصل-2-
» رواية وجه لرجل منسي"الفصل/الوجه-2-" تتمة
» رواية وجوه لرجل منسي "الوجه/الفصل-3-" تعودت أن تجفف دمعي ...

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات دواوين الثقافية و الأدبية :: خلجات سردية (بإدارة مولاي علي درار) :: الرواية-
انتقل الى:  
أركان منتديات دواوين الثقافية و الأدبية