أجساد بشتى المقاييس والقامات...مقاهي متراصة بعضها البعض على طول الكورنيش...أناس في مختلف الأعمار والأجناس..يسير في غمرة هذا الزحام حائرا...يحس بنظرات فضولية تلاحقه...تتساءل من يكون؟ وأخرى تغازله...وثالثة ترميه وترمقه بنظرات كلها تكبر وشماتة ومقت...انها نظرات تعلم جيدا كل غرباء المدينة النازحين اليها من قرى ودواوير ومدن مثقلة بهموم الموت البطئ..وكوابيس البطالة.
سار متثاقلا نحو المقهى ..باحثا عن مرفأ لأفكاره المتناثرة هنا وهناك, كرمال هذا الشاطئ المترامي أمامه مسافات بين الموج والصخور..ومراكب الصيد التقليدية تلج مداخل الميناء..لم يقظه من متاهات الشرود سوى صوت النادل المبتسم ببنطلونه الأسود , وسترته وقميصه الأبيض..
ــ أنعمت صباحا سيدي
ــ صباح الخير ..قهوة سوداء من فضلك
ــ على الرحب والسعة
وبسرعة أحضر النادل فنجان القهوة والابتسامة لا تفارق وجهه الوسيم..
أخرج علبة السجائر..هم باشعالها..يا ألله لقد نسي المسكين قداحته بغرفته البائسة..وفي غمرة البحث عن قداحة أخرى ..يجد يدا تمتد نحوه..أشعل السيجارة رفع رأسه للشكر..انصعق من فرط الدهشة..يا ألله انها أنثى ..قوام ممشوق ..شعر أسود منسدل على الكتف..جلباب وردي بادرته بقولها..
ــ أظنك لم تعهد بامرأة تشعل لك السيجارة؟..انها مسألة عادية..الظاهر أنك لست من أهل هذه المدينة؟
ــ نعم ,فاليوم هو عاشر أيامي بها
ــ مرحبا بك
ــ شكرا لك سيدتي
ــ آنسه
نظرت اليه..تأملها ..وجد نفسه يغوص في بحر من الجمال لا يوصف..أحس باحساس غريب تجاهها لم يعهده من قبل..من تكون هذه المرأة؟ ..لماذا اختارت الجلوس الى طاولته , وهناك شباب أقوى منه وأجمل , وهو انسان في خريف العمر؟
سألته ــ ما بك ؟
ــ لاشئ..
ــ لا تحاول الكذب ..أنا أفهمك
ــ هل أنت عرافة؟ أم منجمة؟ تقرأ الكف والفنجان وما يدور بالأذهان؟
ــ لا تستعجل الأمور..فمع مرور الوقت ستعرفني ..مثلما أعرفك
ــ تعرفينني؟ كيف ؟ ومتى ؟ وفي أي مكان ؟
ــ على رسلك أنا لا أريد أن أنغص عليك جلستك ..فأنت ضيفي اليوم
أشعل سيجارته في اندهاش
ــ انك تدخن كثيرا ..والتدخين يضر بصحتك..لقد حذرتك سابقا
ــ أنا لا أفهم ما تقولين؟ انني في حيرة من أمري
ــ هل أعجبتك المدينة؟
ــ أجل ..في البداية لم أكن أعيرها أي اهتمام..عكس اليوم فقد صرت لا أطيق فراقها
ــ ربما أنا السبب
ــ كيف لي أن أعشق مدينة من خلالك؟ ما السر الى هذا العشق الوردي للمدينة؟
ــ أنا التي اجتدبتك لها لتكون قريبا مني
ــ كلامك ينم عن أشياء لا أفهمها
ــ دعك من ذلك لقد انقضى الوقت بسرعة وعلي أن أذهب
ــ لازال الوقت في متناولنا ...وبالتالي لم تتناولي أي مشروب
ــ لاأستطيع مع السلامة
ــ هل سأراك لاحقا؟
بالتأكيد..سأهاتفك الليلة
وضعت امامه ورقة نقدية وانصرفت..حاول استفسارها ..لكنها تلاشت وسط الزحام..نادى النادل نقده ثمن القهوة وسأله ان كان يعرف تلك المرأة..فأجابه بالنفي.
خرج من المقهى...وأسرع الخطى لعله يلحق بها..لقد اختفت كمارد ..كجنية..بحث في كل الاتجاهات فلم يعثر لها عن أثر..كأن الأرض انشقت وابتلعتها.
نسيم البحر ساعة الغروب , يغازل جسده النحيل..الشمس تغوص في بحيرة من الدماء ..لحظات رومنسية تجمع بين عشاق متفرقين هنا وهناك..يختلسون القبل والعناق...يختلسون من الزمن مواعيد مسبوقة للذة عابرة...يختلسون المتعة والمسافات..تنصهر الجساد في بؤرة غرائز كامنة في دواخلها..تنعش القلب وتغيب العقل, فوق صخور ورمال تشهد على ميلاد عشق في أمكنة وأزمنة علائقية المشاعر والآحاسيس.
يمر الوقت . والسماء خجولة لدرجة الاحمرار ..والأجساد توحي بالانصهار..وحيدا هو , يتابع بعينيه المسهدة تلاطم المواج ..وأنوار السفن القادمة من وراء البحار..ومنارة عتيقة تنير لها طريق الابحار..وسط هذا الزخم من الضباب , الذي شرعت جيوشه بالغارة دون سابق انذار..
أحس ببرودة الجو , الذي بدأ يتسرب عبر قميصه الى جسده..انصرف في اتجاه القصبة حيث غرفته وهو والحلم والليل .